السبحة خيط.. أو دمرنى لأُبدع!

السبحة خيط.. أو دمرنى لأُبدع!
محمد بكري

محمد بكري

6:32 ص, الأربعاء, 13 أبريل 22

سمعت من زمن مقولة لأحد الصالحين يقول (السبحة .. خيط)! أى لا تبهرك فخامة السبحة أو خامتها أو قيمتها أو زخرفها، فقيمة السبحة باحتفاظها بكيانها ونظمها وبقائها بيد مالكها، ولا يكون ذلك إلا بخيط قوى وعقدة مُحكمة يمنع انفراطها، من كثر أو سوء استخدام. قلبت النظر فى مسابح/سبح حياتنا بنظرة بانورامية، فيما ينتظم حولنا فى عقد تتداولها حياتنا والخيط الرابط بينها؟

فمثلا (الصحة) قد تكون الخيط الرابط بين عملنا وأسرتنا وأنشطتنا وثروتنا وممتلكاتنا وعلاقتنا المجتمعية! وقد يكون الخيط هو (قيمنا) التى تشكل قناعتنا وقراراتنا وتوجهاتنا ومواقفنا مما سبق. لو صعدنا الفكرة؛ فالوعى الجمعى هو خيط المجتمع الرابط بين علاقات الرجل والمرأة والأسرة والمصالح والخدمات والقيم والدين والتعليم والثقافة والتكنولوجيا والفن وأسباب تقدم المجتمع أو تدهوره. كذلك الحال فسبحة الدولة هى الأرض والشعب والسيادة والأمن والنظام السياسى والاقتصادي، والخيط الرابط هو استراتيجية صنع القرار وتوازن واستمرار هذا الكيان منتظما، مستقرا، مثمرا، وناميا.

فماذا لو تعقدت هذه الخيوط، أو مُزقت، أو دُمرت؟ زوال أو وهن الخيط يفرط مكونات السبحة ولا يدمرها ذاتيا، فتبقى ذاتية التشتت والتشعيث، فاقدة لهويتها الأصلية، ليعاد تنظيمها إما فى سبحة جديدة وإما فى شكل أو استخدام آخر! فتدمير الصحة بهلاك العائل سيفرط انتظام دنيته لتتنازع الثروة، تذوى الأسرة، يوهن النشاط والقرار إلخ! تدمير الوعى الجمعى للمجتمع سيفرط الأسرة، يضارب المصالح، يخرب الخدمات إلخ! ضرب توازن واستمرار خيط الدولة سيحيل مكونات سبحتها لجزر منفصلة يعاد نظمها كيفما شاء، فتبقى المكونات متهرئة منتظرة إما إعادة النظم وإما الاستمرار فى فوضى منظمة.

العلاقة بين متانة الخيط وانتظام مكونات السبحة، يقابله القدرة على تدميره أو هدمه ولو كان هدما خلاقا! يروى عن المخترع إديسون تفاجؤه وفريق عمله بحريق معمل أبحاثه كاملا! وبينما صُدم الفريق وهلع، قال بتأمل: من الجيد إعادة بنائه لنتلافى أخطاءنا السابقة ونكمل النواقص، لأبنيه كما أريدت! عقل إديسون كان الخيط ومعمله وفريقه مكونات السبحة! هلع تدمير المكونات لم يمس الخيط فاستمر إديسون ونجح.

وهذا ما يقودنا للتدمير الإبداعى والهدم الخلاق! فالتدمير الإبداعى Creative Destruction بعلم الاقتصاد هو الطفرة الصناعية المحدثة لثورة مستمرة بالبنية الاقتصادية من الداخل، من خلال تدمير البنية القديمة، مع خلق بنية اخرى جديدة، بطريقة مستمرة! كما أن الهدم الخلاق فى رأى Schumpeter، يمثل التنافس بين القديم والتقليدى والجديد الغير مختبر بشكل جيد، فتؤدى دورة الإبداع لخلق صناعات جديدة وتدفع بالأنماط القديمة للزوال. تظهر المشكلة الخلط بين منهجية التدمير المبدع والهدم الخلاق من الداخل أو الخارج!؟ فتنفيذ المنهجية من الخارج تستهدف قطع خيط السبحة لمصلحة المُدمر! أما اتباعها بوعى من الداخل فينتج عنه استنفار الحلول والأفكار والبدائل.

من هنا، تتبعت مجموعة سبح تُدمر خارجيا بوعى داخلى مُضلل أو مُغيب أو مُمصلح! فهناك سبحة النظام العالمى بقيادة أمريكا وأوروبا وإسرائيل، مقابل سبحة روسيا الجديدة والصين وكوريا والهند! هناك سبحة إيران الشيعية ومن والاها، وسبحة دول السُنة ومن معهم! هناك سبحة الماسونية العالمية وبروتوكولات حكماء صهيون وجماعة النخبة والمثلث الذهبي! وأيضا سبحة مصر والخليج وأفريقيا! سبحة الدولار مقابل اليوان والروبل والعملات المشفرة! الجميع يمارس التدمير الإبداعى والهدم الخلاق لخيوط السبح من وجهة نظره، ويتوقع إعادة بناء معمل إديسون من جديد!

القضية الحقيقية هى ممارسة التدمير الإبداعى والهدم الخلاق خارج أصولهما، القائمة على التفكير الاستراتيجى والتغيير المنظمى وإبداع البديل الآمن. فمحصلة العولمة والتقدم التكنولوجى ونمو المعرفة = عدم القدر على الاستمرار للعديد من حبات السبح المحلية والإقليمية والدولية! وتكون النتيجة حتمية ظهور الهدم الخلاق الموضوعي، بغير ذلك فنحن ندمر الخيوط بمنتهى الإبداع!

إبداع التدمير الإبداعى والهدم الخلاق، عندما تستوعبه المنظمات والكيانات المديرة، بإعادة تصميمها من أعلى لأسفل، بافتراض عدم الاستمرارية، فتلد وتكتسب منظمات جديدة، وتستبعد الأداء الهامشى بدون فقد السيطرة على العمليات، فإذا كانت العمليات جيدة وصحية فالهدم الخلاق ضمن المنظمة، سيضمن الاستمرارية التنافسية على المدى البعيد.

الخطورة عندما يأتى التدمير الإبداعى والهدم الخلاق خارجيا من أسفل لأعلى، بدون مراعاة الضوابط، مع وهن وتخثر عمليات المنظمة، فهنا نكون عرضة لتدمير ليس فقط خيط السبحة ولكن أيضا مكوناتها، لتولد منظمات جديدة فاسدة، متناحرة، مريضة. تفكرت بهذه المنهجية عند استعراض مقترح تعديلات قانون الأحوال الشخصية الجديد، باقتسام المطلقة والأرملة نصف ثروة الزوج مع نصيبها الشرعي، وكذلك استئذان الزوجة عند التعدد! فخيط سبحة المنظومة المالية بالزواج المصرى هو انفصال الذمة المالية للزوجين، ونظام مواريث وتعدد فى الإسلام بنص قرآني! ولكن التعرض لهذا الخيط بالتعديلات الجديدة بدون دراسة كافية وسند صحيح متفق عليه، سينجب تدميرا مُبدعا لمخالفتها، وبداية عهد جديد لضرب استقرار الأسرة المصرية ركن المجتمع العتيد!

ذات الشيء بالحملة الممنهجة لتدمير الثقافة والفن والاعلام، بتفتيل خيط الوعى الجمعى بالدراما السوداء والمشعوذة والاجتراء على الثوابت والسطحية المائعة وتشييع الانحلال غير المباشر. بل إن الإصرار بهذا الزمن على النظرة والتوجه الذاتى لحماية مكونات السبح، بتجاهل الخيط الرابط للمصالح والوجود والتكامل، يهدد الجميع بتدمير ذاتى يجاوز محاولات إبداع الإنقاذ!

محاولات روسيا مع أوكرانيا، الصين وتايوان، الناتو والحرب الشرقية، إرث بوتين للنظام العالمي، إسرائيل وفلسطين، دول التطبيع وإسرائيل، إيلون ماسك والإنترنت القمرية، الصين ومراقبة الموقف إلخ، يجعل مصر والعالم يدخلان مرحلة تدمير خيوط السبح بلا إبداع وبدون ضوابط التفكير الاستراتيجى والتغيير المنظمى وإبداع البديل الآمن! قد تتحقق هذه الضوابط ذاتيا للمُدمر، ولكنها ستورث عالما مفروط المكونات بزخم من الأراضى المحروقة!

آفة خيط سبحة الوعى الجمعى للمجتمع المصري، هو تدميره المبدع من كهنة مكوناته، فتكون النتيجة تدميرا لأفراده بدون بديل ناجح، لانخراطهم فى إبداع حلولا تنقذهم! فإما بالتطرف أو تفسخ الأسرة أو زيادة الحرام أو شرعنة السلب أو تشييع التمرد إلخ.

دعونا نحافظ على السبحة المصرية برمّ خيوطها لا إبداع تدميرها، فنحن غير مؤهلين بعد للهدم الخلاق!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]