أعاد البريطانيون فتح ملف انسحاب بلادهم من الاتحاد الأوروبى «بريكست» للوقوف على مدى تسبب هذا القرار فى الأزمة الاقتصادية الثقيلة التى انتهت إليها بلادهم وظهرت بشكل واضح فى تردى قيمة الجنيه الاسترلينى.
ويرى خبراء أن بريطانيا تعانى أصلًا سلسلة من القرارات الخاطئة «والإدارة شديدة السوء» منذ الحرب على العراق فى 2003، وأن بريكست لم يكن سوى واحد من تلك القرارات وليس سببا فى حد ذاته للأزمة.
فى حين يرى آخرون أنه لولا بريكست لما وصلت بريطانيا إلى هذه الحال.
وتحت عنوان «لا تلوموا البريكست،» كتب توم ماكتاج من موقع أتلنتك يقول: إنه حتى قبل أن تتخذ بريطانيا قرارًا بمغادرة الاتحاد الأوروبى، وحتى بعد أن نفذته عام 2020 فقد كشف مسحٌ أن ما يقرب من نصف سكان البلاد لديهم مخاوف من انهيار اقتصادى وشيك.
ويرى ماكتاج أن الأزمة السياسية والاقتصادية التى تضرب البلاد فى الوقت الراهن لا يمكن تحميل البريكست مسئولية حدوثها.
وعلى حد تعبير ماكتاج فإن «هذه هى الحقيقة التى يجد البعض صعوبة فى تقبلها سواء كانوا ينتمون إلى الفريق المؤيد للبريكست أو المعارض له».
ولفت إلى أن الأوضاع كانت سيئة حتى قبل تولى تيرزا ماى المسئولية، وكانت سيئة خلال الفترة الطويلة التى سبقت تصويت البلاد على الخروج من الاتحاد الأوروبى فى يونيو 2016.
وكان تصويت الناس بالخروج من الاتحاد الأوروبى راجعا إلى سوء الأوضاع، حيث كانت البلاد تكافح من أجل التعافى من تبعات الأزمة المالية العالمية التى بدأت عام 2008.
وتسببت الأزمة المالية العالمية فى تراجع الأجور وتدهور الخدمات العامة.
ولم يفرض الخروج من الاتحاد الأوروبى اتباع سياسات معينة تلزم رؤساء الوزراء بتنفيذها خلال فترة ما بعد الخروج، والدليل على هذا هو أن رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، ومن قبلها بوريس جونسون قد جرّبا كل ما يمكن فعله بشأن السياسة الضريبية.
فإذا كانت تراس قد قررت تخفيض الضرائب فإن بوريس جونسون قد سار فى الاتجاه المعاكس خلال فترة ولايته من 2019 إلى 2022، قاصدا تمويل برامج رعاية كبار السن ونظام الخدمات الصحية العامة، لكى يفى بوعوده للناخبين بوضع حد للسياسات التقشفية، وذلك أثناء الحملة الانتخابية التى انتهت بتحقيق حزب المحافظين أكبر فوز انتخابى له طيلة 30 عاما.
لكنه ينبغى الإقرار مقابل هذا، بأن البريسكت كانت مسؤولة عن نشوء نصف الفجوات المالية العملاقة القائمة حاليا، وأقبلت تراس على خفض الضرائب تحت ضغط من توقعات النمو الاقتصادى المتراجعة دائما التى تشكلت بفعل البريكست.
وبعبارة أخرى، سياسات تراس الاقتصادية كانت ستكون أقل تهورا وطيشا لو تم تمريرها أثناء عضوية بريطانيا فى الاتحاد الأوروبى.
لكن بريطانيا كانت مهيأة تمامًا لأعمال كارثية مؤذية جدًّا، حتى قبل تمرير البريكست.
وقبل البريسكت أيضًا، حاولت حكومة جون ميجر عام 1992 إدراج الجنيه الاسترلينى ضمن النظام الذى سبق العملة الأوروبية الموحدة، وأنفق لتحقيق هذا الهدف مليارات الدولارات خسرتها البلاد فى أعقاب فشل هذه المحاولة.
ومنذ مطلع القرن الماضى، على حد تعبير ماكتاج، تمت إدارة بريطانيا بطريقة شديدة السوء، مما أفسح الطريق لحدوث إخفاقات متكررة جراء تدخلاتها العسكرية فى العراق وأفغانستان وتطبيق نظام رقابى غير مناسب خلال الأزمة المالية وارتكاب نخبتها السياسية عدة أخطاء أثناء تنفيذ البريكست، فضلًا عن الإخفاق المؤسسى فى التصدى للجائحة.
ومنحت الحكومة البريطانية صلاحيات إلى اسكتلندا أملا فى تخفيف حدة مطالباتها بالانفصال، لكن العكس هو الذى حدث،
وشملت هذه الصلاحيات منح الناخبين هناك حق المشاركة فى الاستفتاء المتعلق بالخروج من الاتحاد الأوروبى دون امتلاك أية فكرة بخصوص ما الذى سيحدث لو صوتوا لصالح الخروج.
وعندما أدركت الحكومة البريطانية أن تحقيق مكاسب فى مفاوضات البريكست بات أمرا بعيد المنال فإذا بها توافق على تقسيم البلاد اقتصاديًّا برغم علمها بأن هذه الخطوة تشكل مصدر تهديد للمؤسسة السياسية الهشة فى إيرلندا الشمالية.
من ناحية أخرى، انبرى فريق آخر من البريطانيين لتحميل البريكست مسئولية الأزمة الاقتصادية فى البلاد، وحصل أصحاب هذا الرأى على الدعم من بحث أجرته شركة ريزلوشن فاونديشن بالاشتراك مع مؤسسة إل إس إى البحثية، إذ تبيَّن أن البريكست تسبَّب فى خفض انفتاح وتنافسية الاقتصاد البريطانى، وهو ما سيقود إلى خفض الإنتاجية والأجور فى العقد المقبل.
وأشار التقرير إلى أن التأثير المباشر للاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى كان واضحا، إذ تجسد فى قفزة فى التضخم الناجم عن خفض قيمة الجنيه الاسترلينى مما أدى إلى ارتفاع تكاليف المعيشة لجميع الأسر وتراجع استثمارات الأعمال.
وتزامن إبرام اتفاقية التجارة والتعاون فى يناير 2021 بين بريطانيا والاتحاد الأوروبى مع الجائحة، مما زاد من صعوبة تقدير التأثير المباشر لتنفيذ هذه الاتفاقية.
وكشف التقرير، رغم هذا، أن بريطانيا لم تشهد تراجعًا كبيرًا نسبيًّا فى صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي، وهو التراجع الذى توقّعه كثيرون سابقًا، وذلك رغم أن الواردات البريطانية من الاتحاد الأوروبى هبطت بوتيرة أكثر تسارعًا، مقارنة بتلك القادمة من بقية بلدان العالم.