ولأن جهود الشراح لاستقصاء المصادر، تستلزم استقصاء تواريخ التأليف والتمثيل، فإن الأستاذ العقاد عنى بإيراد جداول توضيحية، للمضاهاة بين تواريخ التأليف ومدى الإتساق بينها وبين المصادر، وإذ لا يتسع لها هذا المقام، فيمكن للسادة القراء الرجوع إلى هذه الجداول بالكتاب.
نسبة الروايات
يعرض الاستاذ العقاد هنا لما أثير من شك فى نسبة الروايات لشكسبير قبل ظهور طبعتها الثانية، لأن حصر الروايات فى الطبعة الأولى فتح الباب لمراجعة العارفين بها، فاستدركوا ما سقط منها، وما أضيف إليها من غيرها على حسب علمهم بمصادرها.
ولم تكن مراجعة هؤلاء دقيقة، فقد كان منهم من ربما عرف اسم الرواية فقط دون أن يشهد تمثيلها، فالتبس عليه الأمر بين الروايات التى ألفها شكسبير بهذا الاسم، وبين الروايات التى سبقتها بأقلام مجهولين أو مذكورين.
ويورد الأستاذ العقاد هنا ــ كلمة للكاتب «ادوارد رافنسكروفت Ravenscroft» (سنة 1640 ــ 1697) فى مقدمة رواية تحمل اسم: «تيتوس أندرونيكس» وهو اسم رواية تنسب إلى شكسبير بذات الاسم، فقال رافنسكروفت: »إنه ليبدو لى أن اختلاس أعمال الموتى سرقة أكبر إثمًا من سرقةَ أموالهم. ولا أود أن أرمى بجريمة من هذا القبيل، فلا مناص لى من أن أنبئ القارئ بأن هناك رواية فى مجموعة مستر شكسبير باسم تيتوس أندرونيكس نقلت عنها جزءًا من روايتى، وقد أنبأنى بعض المطلعين على تاريخ المسرح أنها ليست له ولكنها وضعت بقلم مؤلف آخر لتمثيلها، ولم يزد عليها شكسبير غير بعض التنقيحات فى تصوير الشخصيات الهامة، وأرانى جانحًا إلى قبول هذا الخبر لأن الرواية أقل أعماله صحة وهضمًا، وكأنها كوم من النفاية وليست بنية منظمة…»
على أن هذا الشك القديم، ردده بعد نحو ثلاثة قرون نخبة من النقاد الأكفاء فى دراسة شكسبير، منهم ـ فيما أورد الأستاذ العقاد ــ الشاعر المتوج فى عصره جون ماسفيلد Masfeld وهو على شهرته فى قرض الشعر أديب عليم بتاريخ الأدب، له كتاب موجز ألفه عن شكسبير، فقال فيه عن هذه الرواية: «ولا يساورنا الشك فى أن شكسبير كتب قليلاً من هذه الرواية، لا ندرى أين ومتى ؟ غير أن الشاعر لا يقترف الخطيئة فى حق فنه ما لم تقسره الضرورة، وما كان شكسبير ليزاول هذا العمل حبٍّا وكرامة عن طيب خاطر… ويجوز أن الرواية وصلت إليه بتوصية من مدير مسرحه وهو يقول له كلمات بهذا المعنى: لدينا قطعة رديئة ــ جد رديئة ــ لولا أنها قد تنجح وأود أن أعرضها وأبدأ بتوزيع أدوارها توًا. ألا تستطيع أن تعالجها ؟ أرجو أن تجتهد فيها اجتهادك ولو أنشأت لها كلمات هنا وفقرات هناك عند الحاجة، ومهما يكن من أمر فأرجو أن أتلقاها منك يوم الاثنين . «
* * *
ويورد الأستاذ العقاد «أن الشك يحيط بمسرحيات أخرى، وأشهرها وأكثرها حظًا من الشكوك رواية بركليس وروايات هنرى السادس ورواية هنرى الثامن ومناظر من مكبث والملك لير وسمبلين، ويظن فريق من النقاد أن فلتشر Fletcher كتب أكثر هنرى الثامن، وأن مارلو Marlowe كتب أكثر هنرى السادس، ويقول أديب مفكر فياض الذهن ـ هو الشاعر الفيلسوف كولردج ـ إن فاتحة الروايات على الأقل ليست من قلم شكسبير، ويتناثر القول بمثل هذا عن مناظر من تيمون الأثينى وترويض السليطة والعبرة بالخواتيم وما عداها، وحجتهم فى فروضهم أن مواضع الشك كثيرة الخلط والخلل، وأنها ليست على سواء فى رسم الشخوص، ولا فى تقسيم الفصول، ولا فى سوق الحوادث، أو الشعور بلب الحادث الفاجع والحادث الذى لا يعدو أن يكون واقعة أليمة لا معنى فيها للفجيعة، وأن بعض المناظر فى الروايات ـ كمنظر جان دارك فى ضراعتها ودفاعها ـ يهدر القيم الإنسانية التى لم يهدرها شكسبير، وإن كان لا يستهين بما فى طوايا الناس من الشر واللؤم والفساد».
وعلى وجاهة الملاحظات، ظل أناس من حذاق القراء مترددين فى التسليم بهذه الشكوك، ويعللون الملاحظات أو المفارقات بالعلل الطبيعية التى تعرض للعبقرية فى أطوار نموها.
ومن أذكى هؤلاء القراء الحذاق ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ «وليام بليس Bliss صاحب كتاب «شكسبير الحق« أو الرد على الشراح، وهو يقول فى الفصل الأول منه إن الشراح لم يتفقوا على سطر يجوز أن ينسب إلى شكسبير ولا على سطر لا يجوز أن ينسب إليه، وإن الشاعر لا يؤلف الجيد من كلامه دون الردىء، وإن ردىء الروايات المشكوك فيها أشبه بردىء شكسبير منه بردىء مارلو، وإن عيوب الموضوع أحيانًا تسوق الشاعر إلى عيوب لا فكاك منها ولا حيلة له فيها».
ويعقب الأستاذ العقاد بأن صفوة آراء هذا القارئ الحاذق فى كتاب زاد على ثلاثمائة صفحة «أن شكسبير كتب كل قطعة تبناها، وأنه لا ينفرد بما لوحظ عليه من التفاوت فى أدوار نموه ولا فى دور واحد من حياته، بل يكاد كل مؤلف عظيم أن يخرج منه ثلاثة مؤلفين أو أربعة إذا فصلنا بين أجود ما فيه وأردأ ما فيه وبين وحى التحليق والإلهام من عمله ووحى الهبوط والتكلف المكدود».
وعلى تفرق هذه الآراء أو الشكوك، فى نسبة رواية أو مشهد، فإن ملاحظات طائفة من النقاد تسلم «أولاً» بوجود عمل لا شك فيـه صحيـح النسبـة إلى شكسبير، وتدين «ثانيا» بعظمة الشاعر وتنزيهه عن العيوب، ومحصول نقدهم أن عبقرية شكسبير حقيقة لا شك فيها، وأنها أكبر وأرفع من الروايات أو المناظر التى ينكرون نسبتها إليه.
ولكن ضربًا من الشك ـ فيما يورد الأستاذ العقاد ـ نجم فى القرن التاسع عشر، وقام على أساس مناقض لأساس كل شك من تلك الشكوك التى تنتهى إلى إنكار بعض المناظر أو بعض الروايات.
وأساس هذا الشك عند المتشككين ؛ أن الرجل المعروف فى التاريخ باسم شكسبير أقل من أن تُنسب إليه رواية من روايات المجموعة، بجيدها ورديئها على السواء، وأن كل رواية منها أتم وأعلى من أن ينهض بها ذهن شكسبير، بما عرف فى التاريخ من دلائل ثقافته ودرايته واستعداده.
www. ragai2009.com