وعلى المنهج السالف، روجعت شخوص مسرحيات شكسبير ـ المعتلة بعلة أصيلة أو طارئة، وروجعت كذلك العقد النفسية ومركبات النقص التى تأتى من صدمات الخيبة وصدمات الغيرة وصدمات التشويه وعيوب الخلقة، وروجعت معها الأقوال وفلتات اللسان التى يفوه بها المصابون بجنون العظمة أو جنون الاضطهاد أو جنون الحسرة والندم ووخز الضمير، فوجد المراجعون ومنهم العقاد من نقاد التحليل النفسانى أنهم أمام طبيعة ثانية خلقها الفن على صفحات الورق، ونقلها من طبيعة الله فأحسن نقلها غاية الإحسان.
وكذلك فيما يضيف الأستاذ العقاد ــ روجعت عوارض الحالات النفسية التى يشتغل بها علمـاء هـذه الدراسـات غير حالات الآحاد من الأبطال والبطلات، وكانت البحوث النفسية قـد استفاضت حتى شملت «الشخوص الاعتبارية» كما يقال فى اصطلاحات القانون، وحتى شملت «الشخوص» الخيالية أو شخوص ما وراء الطبيعة كما يقال فى مجازات الشعر والأساطير، وقد خلق شكسبير جماعاته فى روايات يوليوس قيصر وكريولينس وماكبث وغيرها من المآسى والملهيات قبل أن يخطر على بال أحد أن شيئًا يسمى علم النفس سيهتدى إليه الباحثون، وأنهم سوف يطبقونه على شىء يسمى «نفسية» الجماعات والجماهير فى حالات الرضا والغضب، وحالات الاقتناع والاضطراب، فلم يكن صدقه فى «وعى» هذه النفسيات المفروضة دون صدقه فى وعيه لنفسيات أبطاله من الرجال والنساء والأطفال، ولم يؤخذ عليه خطأ قط فى تصويره لحالات «الجماعة» وهى تنتقل من الاقتناع بشىء إلى الاقتناع بضده، ومن الهجوم لسبب تعرفه إلى الهجوم حبًّا للهجوم فى غير اكتراث لسبب أو غاية، ومن التسليم المحكوم بزمام إلى العبث المنطلق من كل زمام، ولم يجد النقاد المعنيون بأطوار الجماعة فرقًا بين مراقبة أحوالها فى الحياة العامة وبين مراقبة هذه الأحوال فى كلماته وفى تضاعيف أقواله وإشاراته أثناء المناظر والأدوار.
يقول أديسون ـ وهو من كتّاب أوائل القرن الثامن عشر ـ فيما يورد الأستاذ العقاد:
«إننا نحس شيئًا من الروعة والصدق فى كلمات أشباحه وأرواحه وسحرته لا نملك معه إلاَّ أن نحسبها كائنات طبيعية وليست لدينا كائنات نرجع إليها فى تحقيـق صورهـا، ولكننا لا نرى محيصًا من الاعتراف بأنها لو وجدت لتكلمت وتصرفت كما مثلها».
ويقول وليام هازليت من نقاد القرن الماضى: «إن عالم الأرواح مفتوح أمامه كعالم الرجال والنساء، وفى هذا من الصدق والحقيقة ما فى ذاك، إذ لو كانت هذه الخلائق توجد لأمكن أن تتكلم وتشعر وتعمل فى الصورة التى صورها عليها».
ومع اختلاف الأساليب، فإن المحللين النفسانيين يتفقون مع رأى أديسون وهازليت، ولكن يقولون ذلك بأسلوبهم، فيقولون إن خلائق الخيال فى شخصيات شكسبير «طبيعية»، ويعنون بذلك أنها تعبير صحيح عن أحلام الطبيعة البشرية حين تجيش بالأشواق والمخاوف التى ترتسم عليها بلغة الرموز والأشكال المحسوسة، وأنه خالف ما كان جاريًا فى القرون الوسطى فى تشبيه تصوير الأشباح والأرواح، واستبدل بها أشباحًا وأرواحًا تتقبلها طبيعة الإنسان بعد أن ارتفعت منها كوابيس الفزع والجهالة.
● ● ●
وعلى ذلك فإن رسالة شكسبير ؛ هى رسالة الخلق الفنى الموكل بالطبيعة الإنسانية التى يجسدها فى صورها الفنية، ويجسم لها ما يجول فى سريرتها، ولا يُطلب من الشاعر أكثر من هذا. وقد استكثر بعض النقاد أن يصدر هذا التجسيد عن قريحة واعية تقصدها وتشعر بصنيعها، وخطر لهم أن ما نسجه شكسبير من أعمال الغريرة كعمل النحلة فى هندسة خلاياها وعمل العنكبوت فى نسيج بيته وعمل العصفور فى بناء عشه.
ولا شك أنه من خوارق الطبائع أن توجد الغريزة التى تُحسن إبداع تجسيد كل صورة من الصور الإنسانية وهى غافلة أو ساهية عما تقصد إليه. فإذا ما وجدت هذه الملكة فسيان أن تسمى بالغريزة المطبوعة أو تسمى القريحة الفنية.
● ● ●
وقد أحاطت رسالة الخلق الفنى بملكات شكسبير فيما يقول الأستاذ العقاد، وإن لاح للوهلة الأولى أنها ملكات مستقلة كملكة البلاغة وملكة النزاهة فى تصوير الشخصيات المتناقضة.
فمن ملكاته فى النظم والنثر وفرة الشواهد التى تجرى مجرى المثل السائر وتورد على الألسنة والأقلام مورد جوامع الكلم ومواقع الفصل فى الخطاب، وهذه بلاغة لسانية فيما يبدر إلى السامع لأول وهلة، ولكن البلاغة اللسانية لا تخلق مواضع الشاهد ولا دواعيه ومناسباته، وإنما يخلقها الشعور بالحالة النفسية التى تمليها.
من ملكات الشاعر شكسبير فى تأليفه المسرحى ـ نزاهته بين أبطاله وبطلاته، وهذه فيما يرى الأستاذ العقاد ـ صفة أخرى من صفات الخلق الفنى وصدق الوعى فى تصوير النظائر والنقائض من أحوال الطبيعة البشرية، فهو لا يكتب الفواجع لأنه حزين متشائم، ولا يكتب الملهيات لأنه فرح متفائل، وهو لا يمثل الظلم فى الموقف الواحد لأنه يقسو مع الظالم ويشكو مع المظلوم، وإنما يعطى الصورة الصادقة لهذا وذاك.
والبصر المدقق فى عناصر الفجيعة والفكاهة، يجد فى أعمال شكسبير تمام هذه المزايا التى تؤدى بها رسالة التأليف المسرحى فى مآسيه وملاهيه.
وأخيرًا، فإن التطور فى إدراك عناصر المأساة والملهاة ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ لم يأت عفوًا، ولكنه الاختلاف المنظور فى ثمرات الفن الذى تمخضت عنه عصور النهضة وعكفت فيه على رسالة جديدة ؛ هى رسالة الإنسان.
[email protected]
www. ragai2009.com