يعتبر النقد الموجه إلى الأداء أو العرض المسرحى لروايات شكسبير، فيما يرى الأستاذ العقاد ، نقدًا موجهًا فى أساسه لبناء المسرح فى القرن السادس عشر، وإلى ضرورات التأليف التى استلزمها ذلك البناء.
إذ كان النقد يرجع فى أساسه إلى صعوبة تحويل المناظر على المسرح، وصعوبة الدلالة على ابتدائها وانتهائها، وعلى أمكنة الحوادث التى تجرى فيها وتستمر أو تنقطع، وقد كانوا تارة يجعلون تقسيم المناظر تابعًا لحركة الأبطال البارزين فى المسرحية، أو تابعًا لاجتماع العدد الأكبر من الممثلين فى وقت واحد، إلى غير ذلك من التقسيم المنوط بالمخرجين.
وقد ظهرت الطبعة الأولى من مجموعة شكسبير ــ ظهرت خالية من علامات تدل على انتقال المناظر أو على أماكنها، وقد اجتهد «نيقولاس راو ــ ewoR» (1674 ــ 1718) ــ فيما يقول الأستاذ العقاد ــ لتدارك هذا النقص فى طبعته المهذبة، فأصاب وأخطأ وفتح الباب للتعديل والتنقيح فى تقسيم المناظر، بل لكتابة بعض أجزائها.
وقد كان من الممثل «جاريك ــ Garrick » ــ أن أعاد كتابة بعض المناظر، وجاوز ذلك إلى تحويل الرواية من المأساة إلى الملهاة كما صنع فى ختام رواية «روميو وجوليت»، وحذا حذوه آخرون من الممثلين والمخرجين.
«واسترسل طلاب التعديل والتنقيح حبٍّا للتفنن والتنويع أحيانًا، ولغير ضرورة من ضرورات المسرح أو ضرورات الاصطلاح فى اللغة، فخطر للسير بارى جاكسون Barry Jackson فى أوائل القرن العشرين أن يمثل هملت بملابس العصر الحاضر فقوبلت فكرته بالاستغراب والتطلع ولكنها لم تعدم من النقاد المعدودين من يحبذها ويستكثر من تطبيقها، وقال أحدهم وهو «هيورت جريفين» ما معناه إن هذا التمثيل بالملابس العصرية قد أظهر الجانب الإنسانى الخالد فى هملت فلم يبد عليه شىء من الغرابة كالذى بدا على أصحابه الثانويين ممن غلبت صبغة عصرهم على الصبغة الإنسانية».
ويذكر الأستاذ العقاد أن محاولات التبديل والتعديل فى نصوص شكسبير قد تراجعت فى هذا العصر، بعد أن كانت قد مرت بأدوار شتى لم تكن كلها تدور على الأسباب المسرحية التى نشأت عنها.
واستولت هذه الفكرة ــ فيما يقول الأستاذ العقاد ــ على خواطر القوم وأهوائهم قرابة مائتى سنة إلى أواسط القرن التاسع عشر، وفى هذه الفترة سرت دعوة النقد التحليلى ودراسات علم النفس وتطبيقاتها على الفنون، ولا سيما فن التمثيل وفن التأليف المسرحى، فتبين من إعادة النظر فى شكسبير على ضوء هذه الدراسات أنه أعظم من ناقديه وأعظم من مسرحه وجمهوره، وأن شهرته العالمية خارج بلاده نبهت قومه إلى المحافظة على تراثه والاعتداد بمكانته.
هذا وقد تراجعت محاولة التبديل إلى حدودها المعقولة.
وينتقل الأستاذ العقاد من خصائص الشاعر إلى مزاياه، ويرى أن هذا الانتقال بمثابة الانتقال من الأداء إلى الرسالة التى أداها الشاعر بفنه بصنوفه، من منظوم ومنثور وقصص وتمثيل، ولباب هذه الرسالة أنها «رسالة الإنسان».
كانت دعوة العصر كله دعوة الانسانيين.
وكان من نصيب شكسبير أن يكون ترجمانًا لدعوة عصره.
والأمر فى رسالة شكسبير ــ فيما يقول ــ أكبر من أمر الترجمة عن الإنسان، وأكبر من تصويره أو وصفه أو التعبير عنه.
إنما كانت رسالة شكسبير فى دعوة الإنسانيين «خلقًا فنيًّا» للطبيعة الإنسانية، ولم تكن مجرد تصوير لها أو تعبير عنها.
والفرق بين الرسالتين واضح ومحسوس.
فليس من النادر أن نعرف إنسانًا فنصوره بصفة غالبة عليه، أو نصوره بجميع صفاته التى يدركها عارفوه.
وليس من النادر أن نعبر عنه ونقول بألسنتنا ما يقوله هو بلسانه، ولكن النادر أن نخلق صورة منه وندعها ماثلة فى عالم الكتابة تعيش كما يعيش الأحياء، وتحيا لو نفخ الله فيها روح الحياة فإذا هى نسخة أخرى من صاحبها فى قوله وعمله وفى سره وعلنه، وفى خاصة نفسه وفيما يرتبط به مع الناس من مجاوبة فى الشعور ومعاملة فى الخير والشر والموالاة والعداء.
فرق بين خلق الشخصية وبين الحكاية عنها بالوصف أو بالتعبير.
وخلق الشخصية فى عالم الفن هو رسالة شكسبير فى دعوة الإنسانيين.
ولكن أى شخصية يسعى الشاعر إلى تجسيدها؟
إنها شخصية الإنسان فى طبيعته المتنوعة المتقلبة ـ مئات من الرجال والنساء والأطفال، وفى كل سن، ومن كل مزاج، وعلى كل حالة، وبين كل طبقة، تجمعهم تصانيف شكسبير فى تجسيدها لكل شخصية من هؤلاء فى أحوالها وظروفها.
من هذه الشخصيات الطيب والخبيث، والصريح والغامض، والطامع والقانع، والعظيم والحقير… ألخ. كل منهم يتكلم ــ فيما يجسده الشاعر ـــ ينبغى أن يتكلم أو يعمل به.
كتبت السيدة آنا جيمسون كتابها المشهور عن بطلات شكسبير فنقلت فيه خمسًا وعشرين صورة تحليلية من صور النساء فى مسرحيات شكسبير: منهن نساء الذكاء والفطنة، ومنهن نساء المطامع والمغامرات، ومنهن نساء العاطفة والحنان، ومنهن النساء المعروفات فى التاريخ. وكلهن نساء وليس فيهن واحدة تشبه الأخرى فى جملة صفاتها ونياتها.
والممثلة النابغة إلين تيرى Ellen Terry تكتب عن الأطفال فى مسرحيات شكسبير، وقد بدأت عملها على المسرح بتمثيل بعض هؤلاء الأطفال، فإذا بها تنسى، وإذا بالشاعر يذكرها كما تذكرها صور الحياة، وكأنها تستكثر أن يكون هذا وعيًا باطنًا من الشاعر وحسب، فيخيل إليها أنه كان ينقل الصورة تارة من ابنه «هامنت» وتارة من الطفل وليام شكسبير كما بقى فى وعيه من ذكريات صباه.
وأغرب من هذا فى القدرة على استكناه بواطن النفس ومحاكاتها على حقيقتها أن يقتدر شاعر فى القرن السادس عشر على عرض العلل النفسية بحدودها العلمية التى كشفت عنها دراسات العلماء بتفصيلاتها ودخائلها فى العصور المتأخرة، ولم يزل منها سر خفى ينكشف من غيابته العميقة عامًا بعد عام إلى هذه الأيام.
[email protected]
www. ragai2009.com