تواصل القطاعات الرئيسية في الاقتصاد الروسي تكيفها مع العقوبات الدولية غير المسبوقة المفروضة بسبب الحرب في أوكرانيا، وفي بعض الحالات تشهد انتعاشاً بشكل كامل، بحسب وكالة بلومبرج.
فقد تمكنت البنوك وشركات صناعة السيارات وشركات الطيران من إيجاد سبلٍ للتعامل، وبالنسبة إلى البنوك تحديداً فقد حققت أرباحاً قياسية هذا العام على الرغم من القيود الأميركية والأوروبية التي تهدف إلى تدمير الاقتصاد رداً على الحرب. وحقق العديد من الشركات التي تعافت من صدمة العام الماضي هذا الأداء بسبب نمو اقتصاد روسيا بشكل عام، وارتفاع طلب المستهلكين، مدعوماً بالإنفاق الحكومي الكبير.
أداء الاقتصاد الروسي
يوضح هذا الانتعاش حدود تأثير العقوبات التي قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنها تهدف إلى تقليص الاقتصاد الروسي إلى النصف، وتحويل الروبل إلى “ركام”؛ عقاباً على غزو أوكرانيا في فبراير 2022. وسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تعزيز العلاقات مع دول مثل الصين والهند مع قيام الاتحاد الأوروبي بتقليص العلاقات التجارية مع روسيا، بما في ذلك واردات النفط والغاز، من خلال جولات عقوبات متكررة.
هوى الروبل إلى مستويات قياسية إثر بدء الحرب، لكنه سرعان ما تعافى. وأعادت الحكومة الشهر الماضي فرض بعض الضوابط على العملة بعد أن انخفض الروبل مرة أخرى إلى 100 مقابل الدولار، مما أدى إلى تحول جعله الأفضل أداءً بين الأسواق الناشئة في الشهر الماضي.
انتعاش المصارف الروسية
من المؤكد أنه على الرغم من أن روسيا قد نجت من الانهيار الاقتصادي حتى الآن، لكن الحكومة تستنزف مواردها للحفاظ على الإنفاق الحكومي، في الوقت الذي شهدت نزوحاً جماعياً من قبل المستثمرين الأجانب. وتجد الشركات المحلية صعوبة متزايدة في مواكبة التغيير التكنولوجي وسط عزلة دولية.
يقدم القطاع المصرفي الروسي أحد أكثر الأمثلة وضوحاً على مدى تغلب الاقتصاد على الضربة الناجمة عن العقوبات. يستعد أكبر مصرف روسي، وهو “سبيربنك” المملوك للدولة لجني أرباح قياسية بالروبل هذا العام، وهو المصرف المشمول بعقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جانب جميع المؤسسات الرئيسية في البلاد حيث تم حظره من نظام المدفوعات الدولية السريعة.
وقال الرئيس التنفيذي للمصرف هيرمان غريف، الذي شملته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بالعقوبات: “على الأرجح سيكون هذا العام بالفعل الأكثر نجاحاً في تاريخنا”.
لم يكن “سبيربنك” الوحيد في هذا النجاح. فقد تجاوز إجمالي أرباح القطاع المصرفي للأشهر التسعة الأولى من العام بالفعل الرقم القياسي السنوي السابق على الحرب في عام 2021. وقال فاليري بيفن، المدير الإداري لوكالة التصنيف الروسية “أكرا” ، إنه بعد انخفاض أرباح البنوك إلى الصفر تقريباً في العام الأول من الغزو، قد تتجاوز الأرباح 3 تريليونات روبل (33 مليار دولار) في عام 2023.
يُعد هذا أعلى بثلاث مرات مما توقعه البنك المركزي في البداية هذا العام، مدفوعاً بازدهار الائتمان وضعف الروبل وانخفاض المخصصات.
وفقاً لـ”أكرا”، من المتوقع أيضاً أن يكون العام المقبل “ناجحاً للغاية” بالنسبة إلى البنوك.
العودة لمستويات ما قبل الحرب
بعد ربعين متتاليين من المكاسب المحتملة، عاد الاقتصاد الروسي تقريباً إلى مستويات النمو المسجلة قبل الحرب، ولكن كل ذلك جاء على النقيض من الضربة الناجمة عن العقوبات.
يقدّر الاقتصاديون الذين شملهم استطلاع “بلومبرغ” أن النمو السنوي تسارع إلى أكثر من 5% في الربع الثالث. ومن المقرر أن تصدر دائرة الإحصاءات الفيدرالية بيانات في هذا الشأن اليوم الأربعاء.
يُتوقع أن يستمر التحفيز المالي الذي ساعد على دفع التحول، ويعود ذلك جزئياً إلى قدرة روسيا على إعادة توجيه إمدادات النفط إلى دول أخرى، وبيع الخام بأسعار أعلى من سقف السعر البالغ 60 دولاراً الذي تفرضه مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي.
حافظت مبيعات الطاقة على تدفق إيرادات حاسم للحكومة، ما جعل الميزانية في وضعية أفضل مما توقعه المسؤولون على الرغم من ارتفاع تكاليف الحرب. سيستمر الإنفاق الحكومي في تحفيز الاقتصاد، وفقاً لوثيقة وزارة المالية التي تحدد سياسات الميزانية الرئيسية للفترة 2024-2026، و”جعل من الممكن ليس فقط استقرار الوضع، ولكن أيضاً التكيف بنجاح وبسرعة مع الظروف الجديدة”.
يقول أليكس إيساكوف من “بلومبرج إيكونوميكس”: من المحتمل أن يصل الاقتصاد الروسي إلى مستويات ما قبل الحرب في بداية الربع الرابع من العام 2023، متحدياً التوقعات المبكرة. تمثّلت الدوافع وراء هذا الانتعاش في أسعار الطاقة المواتية، والتي تزوّد روسيا بتدفق من عائدات النفط والغاز، والحافز المالي على نطاق “كوفيد” الذي قدمته الحكومة من خلال زيادة الإنفاق العسكري، وظروف الائتمان الميسرة التي شهدت توسعاً في محفظة قروض التجزئة والشركات بنحو 20% على أساس سنوي.
تحديات قائمة
ما زالت التحديات تنتظر. فقد تسارع التضخم إلى مستوى أعلى بكثير من هدف البنك المركزي البالغ 4%؛ نتيجة لقيود العرض والإنفاق العام، ونمو الائتمان، وضيق أسواق العمل الذي تفاقم بسبب انضمام الأفراد بأعداد كبيرة إلى الجيش والصناعات الدفاعية.
وقال أليكس إيساكوف، من “بلومبرغ إيكونوميكس”: “يأتي الهبوط بعد الذروة”، مضيفاً أنه مع وصول سعر الفائدة القياسي لبنك روسيا حالياً إلى 15%، “توقع تباطؤاً سريعاً في الائتمان في الأرباع القادمة، مما سيقلل طلب المستهلكين، ومن المحتمل أن يؤدي إلى سوق عمل أكثر انخفاضاً”.
من جانبه، رجّح مارسيل ساليخوف، رئيس معهد الطاقة والمالية في موسكو، أن يعود الاقتصاد الروسي إلى معدلات نمو محتملة تبلغ نحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو “سيناريو جيد في ظل الظروف الحالية”.
سد الثغرات
ويرى ستانيسلاف موراشوف، الخبير الاقتصادي في “رايفايزن بنك” في موسكو، أن قدرة روسيا على إيجاد مصادر جديدة للواردات، أو في بعض الحالات استبدالها بالكامل، كانت عاملاً آخر في تعافيها مؤخراً. وقال: “تمكنت الشركات الروسية من تطبيق حلول غير قياسية للغاية. لا نرى حتى الآن أي عجز حاد”.
تؤكد سوق السيارات الروسية هذا الوضع. فعلى ما يبدو أن هذه السوق التي انهارت بعد نزوح جماعي للعلامات التجارية الغربية، قد تعافت مبيعاتها إلى مستويات ما قبل الحرب في أكثر من عام بقليل.
وعلى الرغم من تعافي أحجام المبيعات، تغير هيكل السوق تماماً. فالصين تمثل حالياً ما يقرب من 80% من واردات السيارات الجديدة، فيما استحوذت العلامات التجارية الصينية على أكثر من نصف سوق السيارات الروسية بالكامل في أقل من عامين، وفقاً لوكالة “أوتوستات”
تستحوذ شركة “أفتوفاز” الروسية على حصة أخرى من السوق، حيث سجلت زيادة بنسبة 59% في الإنتاج خلال الأشهر السبعة الأولى من العام، بالإضافة إلى أفضل حجم مبيعات خلال عقد على الرغم من القيود المفروضة على إمدادات المكونات إلى روسيا. أدرجت الولايات المتحدة “أفتوفاز” ضمن قائمة العقوبات في سبتمبر الماضي.
إنجازات غير مخطط لها
بعد حظر شركات الطيران الروسية من التحليق في الكثير من الخطوط الجوية الدولية، تحوّلت الشركات إلى تطوير خدمات محلية جديدة في أكبر دولة في العالم من حيث مساحة اليابسة. وصلت حالياً إلى هدف 50% من المسارات التي تتجاوز موسكو، والتي حددها بوتين في عام 2018، قبل الهدف المحدد من قبل لعام 2024، وفقاً للبيانات الرسمية.
وقالت وزارة النقل، رداً على استفسار من “بلومبرج”، إن الزيادة في السفر الجوي الداخلي، حتى مع إغلاق السلطات للمطارات في المدن السياحية في جنوب روسيا كجزء من الحرب على أوكرانيا، تعود إلى حد كبير إلى الدعم الحكومي.
وعلى الرغم من ضغوط العقوبات، فإن السفر الجوي الدولي “يتزايد بشكل مكثف”، حيث ارتفعت حركة الركاب بـ30% تقريباً خلال الأشهر التسعة الأولى من العام مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. يُشار إلى أن روسيا تتمتع بروابط رحلات جوية مع 37 دولة، وتقدم 59 شركة طيران أجنبية خدماتها إلى البلاد، وفقاً لوزارة النقل.
مع ذلك، ما تزال هذه الصناعة تعتمد بشكل كبير على طائرات “بوينغ” و”إيرباص”، واضطرت إلى إيجاد طرق بديلة لصيانة وخدمة أسطولها محلياً أو في الخارج. وفي هذا الصدد، فقد أرسلت شركة “إيروفلوت” هذا العام أول طائرة لها إلى إيران للخدمة.
وقالت أولغا بيلينكايا، الخبيرة الاقتصادية في شركة “فينام” في موسكو، إنه حتى مع تكيف بعض القطاعات مع القيود المفروضة، فإن ممارسة الأنشطة في ظل العقوبات تكبّد الاقتصاد الروسي تكاليف. أضافت بيلينكايا: “وجدت روسيا حلولاً لمعظم العقوبات، لكنها لا تزال تعاني من خسائر بسبب زيادة تكاليف الخدمات اللوجستية، ومحدودية الوصول إلى المعدات والتقنيات، وتردي جودة الحلول التكنولوجية”.