من المعروف الموقف المناهض جدًّا، شديد المناهضة، الذى اتخذه الأستاذ العقاد عن الشيوعية بكل صورها ونظرياتها، والداعين إليها، وقد مرَّ بنا المجلد الأول من هذه المدينة، كتابه: «الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام»، والذى عرض فيه للمذهب وصاحبه كارل ماكس، وللقيمة الفائضة، وللطبقات وحقوق الفرد فى الشريعة، فضلاً عن الأخلاق والآداب والفنون والمعارف والعلوم، وكتابه: «لا شيوعية ولا استعمار»، تناول فيه الشيوعية والاستبداد والعنصرية، وتجارب الشيوعية فى الصين ويوغوسلافيا، والاستعمار وأسبابه و سباقه. وكان الكتاب الأول قد صدر سنة 1956، وصدر الكتاب الثانى سنة 1957.
وهو هنا يعرض للشيوعية فى ثلاث مقالات نشرت فى مجلة الأزهر بأعداد مايو وسبتمبر وديسمبر سنة 1959، أولها بعنوان: «إفلاس مذهب» ويدور حول أنه لا طاقة للمادية الشيوعية بالبقاء، وعنوان المقال الثانى: «تحدى الإله ومعناه»، وهو يدور كما هو واضح من عنوانه على ما يراه الأستاذ العقاد «إلحادًا» وإنكارًا بل وتحديًا للإله فى النظرية الماركسية أو فى مواقف المنتمين إليها، ويحمل المقال الثالث عنوان: «رماد ولا نار»، وهو يدور حول دعوى الشيوعيين أنهم كفروا بالأديان لأنهم درسوا التاريخ وفسروه، ودرسوا الأديان وعرفوا خباياها، فخلصوا إلى موقفهم هذا الذى يحمل عليه الأستاذ العقاد فى هذا المقال.
(1) إفلاس مذهب
يستدل الأستاذ العقاد على هذا الإفلاس، من أن المذهب الشيوعى قام فى روسيا قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، وأن الجيل الذى نشأ منذ هذا التاريخ رضع وتربى على هذا المذهب الذى ولد فى ظله، وعزل منذ الطفولة ليلقن عقائده وآدابه، وأن ذلك الجيل ظل على هذه الصلة المتينة بالمذهب فى أطوار عمره حتى ناهز الستين، منقطعًا انقطاعًا تامًا لهذا المذهب الذى أشهر أن من ليس مع الشيوعية فهو عليها، وأباد أو أقصى كل من رآه ليس معها، ونشأ عن ذلك «وحدة مذهبية» قوامها مائة وخمسون مليونًا أو يزيدون.
وأنه برغم هذه «الوحدة المذهبية» التى لم يعرف لها نظير فى التاريخ، والفرصة الواسعة التى أُتيحت فى ظلها للثورة الشيوعية ودعواتها الاجتماعية، مما كان مقتضاه أن يكون المذهب إن صلح على غاية الاستقرار والطمأنينة ضمانًا للحقوق وعلى دعائم الحرية.
إلاَّ أن الواقع المشاهَد بعد كل هذه السنين، وكما يصفه حكام الروس أنفسهم منذ عهد ستالين إلى عهد خروشوف، يثبت أن ستالين قضى على المئات والألوف بتهمة الخيانة والغدر بالشعب والعدوان على مصالحه وشريعة حكمه، ومع أن خليفته خروشوف وصفه بأنه كان ظالمًا عاتيًا سفاحًا يخوض بغير حق فى دماء الأبرياء، إلاَّ أنه ما لبث أن تابع هو نفسه سياسة سلفه، وصنع مثل صنيعه، فى القتل والنفى والعزل وإلقاء تهم الخيانة العظمى على زملائه وأعوانه.
والدلالة هنا فيما يتغيّا الأستاذ العقاد إثباته- دلالة مزدوجة، فإن كان ستالين عادلاً بريئًا مما اتُّهم به، فإن معناه أن كل رؤساء الشيوعيين الذين أدانهم خونة أنذال مفسدون، أما أن كان اتهامه بالظلم والاستبداد صحيحًا، بات جليًّا أن حكومته بأسرها حكومة إما قاعدة مستسلمة، أو أنها شريكة فاعلة فى الإرهاب والغش والتضليل.
وعلى أى وجه من الوجوه، فإنه لا مفر إذن من الجزم بأن الشيوعية أفلست فى سياسة مجتمعها غاية الإفلاس، وأنها لم تستطع بعد أربعين سنة أن تقدم إلاَّ حكمًا ظالمًا باغيًا سفاحًا !
ومجمل القول، أنه لا طاقة لهذه «المادية الشيوعية» بالبقاء !
(2) تحدى الإله ومعناه
دفع إلى هذا المقال صيحة ضالة مغرورة، أطلقها أحد الماركسيين مناديا من إحدى المحطات الإذاعية: «الله».. مضيفًا أنه ليتحداه إنْ كان موجودًا أن ينسف هذا البلد ويمحو تلك الدولة !
وهذا التحدى دال بذاته على حماقة وغباء وسوء فهم من أطلقة، فهو لم يفهم فى إلحاده وتحديه الغشوم إلاَّ أن الله «سلطة»، وأنها سلطة «غاشمة» يثيرها التحدى ولا يسعها من ثم إلاَّ أن تظهر قدرتها بالرد عليه بما يتحداها به إثباتًا منها لوجودها !
وهذا هو الفهم الوحيد لمعنى الإلاهية، الذى يمكن استخلاصه من تحدى هذا الغشوم، الذى أسمعه للعالم وهو يحسب أنه قد أفحم من يؤمنون بالله، بل لعله ظنه قد جرى على أنه قد أفحم وحاشا لله من يؤمنون به !!!
إن ما يتعلق بالربوبية لا يحتمل هذه اللجاجة الحمقاء، وإدراك وجود الله لايتأتى بمدركات الحواس، ولا يتساوى بشأنه الناس فى مدركات الضمير، فإذا كانت أبسط ذرة تراب لا تعطينا سرها وحقيقتها الكاملة فى لمحة عين، ولا نستغنى لمعرفتها عن العمل والبحث والفحص والتحليل والتفكير، فكيف بالله تعالى رب العالمين ؟!
فما بال هؤلاء الملاحدة الجهلاء يريدون من الحقيقة الإلهية وهى حقيقة الحقائق أن تكون أقرب منالاً من حقائق ذرة التراب أو كوكب الشمس أو غيرها من الكواكب والسيارات!!
إن العلم بوجود الله مطلوب، ولكنه مقرون بتنزيه مخلوقاته تنزيهًا حيًّا فى الضمائر والعقول، فإذا مات الضمير وأُغلق العقل، فلا معنى للبحث فى الوجود إلاَّ أن يكون عبث هذا العابث الملحد الذى لا يفقه ما يقول !
(3) رماد ولا نار
بهذا الوصف، يدفع الأستاذ العقاد قالة المتباهين بكفرهم، أنه حصاد دراستهم للتاريخ وتفسيرهم إياه، ودراستهم للأديان ومعرفتهم خباياها.
ويجعل الأستاذ العقاد همه وهمته وعلمه، فى إثبات أنهم لا درسوا التاريخ، وأدلة ذلك، ولا درسوا الأديان، وأدلة ذلك، وأنه متى ثبت أن قالتهم ليست وليدة دراسة كما يزعمون، فقد قام الدليل على أنهم كاذبون مأجورون مسخرون ! وأن النار التى يشعلونها لا تخلف سوى رمادٍ لا قيمة له !!
ويمكن للقارئ أن يتابع الأستاذ العقاد فيما ناقش وأفحم به أدعياء العلم والدراسة، وتهجمهم الضرير الجهول على آيات القرآن، وإيضاح خلطهم وتخلطيهم وتخبطهم.. فى ذلك وفيما تقولوه كذبًا على التاريخ وعلى الخلفاء الراشدين.
ولكنك سوف تخرج سريعًا إلى صدق ما أبداه، أنها نار لا تترك إلاَّ رمادًا، وأن بضاعة هؤلاء التجار ما هى إلاَّ تجارة فاسدة كاسدة فى سوق الجهل والضلال، لا تسَّوق إلاَّ إلى الأجهل منهم !!!