هذا الكتاب مجموعة من المقالات المنتقاة مما كتبه الأستاذ العقاد ويدور حول الإسلام والحضارة الإنسانية، جمعتها بعد وفاته بتسع سنوات- المكتبة العصرية ببيروت، ونشرتها سنة 1973، وعنيت المجموعة ببيان تواريخ ومواضع نشر هذه المقالات، بمجلات الكتاب، والهلال، والرسالة، والرياض، والأزهر.
وقد أعيد نشر الكتاب ضمن المجموعة الكاملة لأعمال الأستاذ العقاد- المجلد / 8 – بيروت 1989، وأعادت نهضة مصر نشره سنة 2005.
وضمّت المجموعة مقالات إسلامية متنوعة، دار بعضها حول الإسلام والحضارة الإنسانية، وتعرض بعضها لنشأة الفلسفة الإسلامية، وللدعوات الإسلامية والإسلام ووحدة الجماعة، وللاقتصاد السياسى فى الإسلام، وتناول بعضها براهين الإمام قبل دواعى الشك والإنكار، وديانات العالم السبع العظمى، وأخرى عن بعض ما يصدر فى الغرب من كتب عن الإسلام ورسوله، وعن بعض أدوار التاريخ، والأندلس الإسلامية، وعن مراكش المستقلة، وأفغانستان وانتشار الإسلام فى الهند، وعن العلية الجديدة فى نيجيريا، وأطلس العالم العربى فى الشرق الأوسط، وعرض بعضها لانهدام المادية ولإفلاس المذهب الشيوعى، إلى حديث عن الأزهر الشريف، ونعى الإمام الأكبر الشيخ محمد شلتوت، هذا إلى بعض مقالات عن رسول القرآن عليه الصلاة والسلام، تناولناها سلفًا إثر تناول كتاب «مطلع النور» وكتاب «عبقرية محمد»، فى إطار مجموعة تناولت السيرة النبوية والرسول عليه السلام من عدة زوايا، واستحسنت لحسن التبويب أن أضمها معًا بعد الكتابين المذكورين، وكان منها من هذه المجموعة : خاتم الأنبياء. كتاب جديد عن الرسول. الروحانية بين الأنبياء الثلاثة.
وقد اختارت دار النشر، أن تختم المجموعة بمقال يحمل اسمها، عن الإسلام والحضارة الإنسانية. وجمع زبدة رأى الأستاذ العقاد فى هذا الشأن، وبه نبدأ هذه السطور.
الإسلام دين إنسانى عام، أو دين عالمى كما يقال فى مصطلح العصر الحديث، وهو عالمى لأنه يخاطب الأمم جميعًا، فلا يفرق بين أمة وأمة بفارق الجنس أو اللون أو اللغة. فكل إنسان فى أى مكان، وفى أى زمان أيضًا، أهلٌ لأن يأوى إلى هذه الأخوة الإنسانية، حيث يشاء وحين يشاء.
«وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا» ( سبأ 28 )
«قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا» (الأعراف 158 )
«وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا» ( النساء 79 )
وهكذا أعلنها القرآن الكريم دعوة عامة منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وهكذا أعلنها نبى الإسلام عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الراشدون وتابعوهم الأبرار فى صدر الإسلام.
وهذه هى البينة العلمية الواقعية اليقينية على «عمومية» الدين، وهى «عمومية» انفرد بها الإسلام بين كافة الأديان، الكتابية وغير الكتابية، والنظر إلى هذه الخاصية من وجهتها الصحيحة يؤكد أنها مزية قد انفرد بها الإسلام.
كانت الأديان مقصورة على العصبية القومية، أو على تحويل الوثنيين الذين درجوا فى بقعة ما فى زمان ما على عبادة الأصنام وما يشبه الأصنام من رموز القوى الطبيعية.
فالموسوية قصرت دعوتها على العبريين أو اليهود.
والبرهمية ظلت ديانة قومية عنصرية حتى خرجت منها النحلة البوذية، فنجحت فى تحويل الوثنيين إليها فى الصين واليابان، ولم تحول إليها قط أمةً ذات كتاب.
والمسيحية كانت إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، ثم حولت إليها الرومان وغيرهم من الغربيين أو الشرقيين، ولكنهم كانوا جميعًا من الوثنيين الذين وقفوا عند خطوات الدين الأولى، ولم يجاوزها إلى عقائد أهل الكتاب.
أما الإسلام ففى خطابه للعالمين، قد حول إليه أعرق الأمم فى الحضارة وفى الإيمان بالعقيدة الكتابية، فأسلمت فارس، وأسلمت مصر، وهما على التحقيق أعرق أمم العالم يومئذ فى تاريخ الحضارة.
وهذه المزية ينفرد بها الإسلام بين جميع الديانات، وهى آية العالمية والصلاح لدعوة الأمم جميعًا، سواء منها الأمم العريقة فى الحضارة والدين، أم الأمم التى لم تبلغ بعد مبلغ الارتقاء فى التحضر والاعتقاد.
وهذه الحقيقة جديرة بأن نذكرها فى العصر الحديث، فقد سمعنا عن المبشرين من اعترفوا منهم بغلبة الدعوة الإسلامية فى أواسط القارة الأفريقية، وإقرارهم وتسليمهم بأن هذه الدعوة نجحت حيث أخفقوا أو لم ينجحوا، وبأن هذه الدعوة شاعت وانتشرت بغير تبشير مع إخفاق غيرها رغم التبشير الطويل.
وهذه آية على «عمومية» الإسلام وخطابه وصلاحيته للعالمين، لا ما يزعمه الزاعمون عن موافقته للقبائل المتأخرة أو لمطالب البدائيين.
لهذه الصلاحية دخل فى دعوة الإسلام أعرق الأمم حضارة بعد خلاصها من الوثنية، ولم يحصل ذلك قط فى تاريخ دين.
وتزداد هذه الحقائق وضوحًا كلما رجعنا إلى تاريخ الدعوة الإسلامية بين البلاد الآسيوية، بل كلما رجعنا إلى انتشار الإسلام بين الدول الأوروبية والأمريكية التى لا يستطيع زاعم أن يزعم أن الإسلام دخلها غازيًا أو بحملات تبشير.
والوقائع العملية هى الشهادة للإسلام بالصبغة الإنسانية العالمية، ولا حاجة بالدين إلى شهادة أخرى متى ثبت له من تاريخه الأول- فيما يستشهد الأستاذ العقاد- أنه ضم إليه شعوبًا من جميع السلالات والعقائد، ومن جميع أطوار الحضارات، ومتى كان ثابتًا أن كتابه يخاطب الناس كافة، ويوجه الرسالة إلى كل سامع، وعلى سنة العدل والمساواة.
وهذه الخاصية الإنسانية لم توجد فى الإسلام أمس لتزول عنه اليوم، بل هى باقية فى صميم الإسلام يواجه بها الحضارة العصرية كما واجه بها حضارات العصور الأولى، وهذه الخاصية هى التى صبغت تلك الحضارات بالصبغة الإسلامية، وهى التى جعلت من تاريخ الفكر الإسلامى والآداب الإسلامية تاريخًا للعالم من القرن السادس للميلاد إلى القرن الخامس عشر. ولم ينفصل التاريخان بعد ذلك لأن الإسلام فقد «خاصته»، ولكن لأن المسلمين لا الإسلام تخلفوا فى مسيرتهم عن الركب، ولم يعودوا مسلمين إلاَّ باللقب والعنوان.
يقول المؤرخ «توينبى» إن المسلمين يواجهون حضارة العصر بنزعتين متناقضتين : إحداهما يسميها النزعة «الهيرودية» وينسبها إلى «هيرود» ملك اليهود الذى واجه حضارة الرومان بالتشبه بها فى المسكن والملبس والمعيشة. والنزعة الأخرى هى نزعـة «الغلاة» وينسبها إلى نساك إسرائيل الذين كانوا يصرون على القديم وينكرون كل ما يخالف العادات والموروثات.
نحن فى العصر الحاضر- فيما يقول الأستاذ العقاد- نعرف الرخصة والهوادة كما نعرف الشدة والصرامة، ونواجه الحضارة الأوروبية بالنزعتين معًا أو نتوسط بينهما تارة مع المحافظة وتارة مع التجديد. وهذه النزعات على اختلافها الذى نشهده اليوم كانت موجودة فى تاريخ كل دعوة.. فهى طبيعة الناس التى لا تتبدل.
يغنى المسلمين من الإسلام، أن يظل كما هو عقيدة إنسانية عامة، فلا يقطعهم عن الإسلام زمن ولا مكان، ولا تشدد ولا ترخص، فلا يكون المسلم غريبًا مع حضارة الغرب الحديث كما لم يكن غريبًا مع حضارة الفراعنة والفرس والروم.
يقول الأستاذ العقاد: «لقد كان الإسلام عقيدة «إنسانية» ودعوة عالمية يوم تقطعت الأسباب بين الأمم وتمزقت الأنساب بين بنى آدم وحواء، فاليوم والدعوة الإنسانية على كل لسان خليق بالإسلام أن يجعلها فى كل قلب وأن ينفذ بها إلى كل ضمير».
رجائى عطية
Email: [email protected]
www.ragai2009.com