الإسلام فى تاريخ العالم
من موضوعات التأليف التى كادت أن تصبح لها «دورة» فى اللغة الإنجليزية، الكتابة عن تاريخ العالم فى مجلد واحد، وقد ظهر فى الفترة الأخيرة بالإنجليزية ثلاثة تواريخ عالمية من مطبوعات المجلد الواحد، وهى : «تاريخ هـ. جـ. ويلز» المصلح الاجتماعى والكاتب القصصى، وتاريخ «فان لون» الناقد الفنى والكاتب الأديب، وتاريخ «جون باول» المشرف على تأليف الموسوعة الجامعة لتاريخ العالم، وهو الكتاب الذى اختاره الأستاذ العقاد للحديث عنه.
والخاصة التى تتميز بها هذه التواريخ العالمية التى يشملها مجلد واحد، أنها تكتب من وجهة نظر مقدورة فى موازين مؤلفيها، فهى ليست متفرقات بلا رابط، وليست مجرد وقائع مجردة من المغزى والدلالة، ولكنها أشبه بقصة متناسقة يعرضها شارح واحد.
ولقد كان «ويلز» كفئًا فيما يقول الأستاذ العقاد للقيام بهذا التنسيق فى مجموعته على أساس النظرة الواسعة إلى الوحدة الإنسانية فى أطوار التقدم الاجتماعى، وكان «فان لون» مقتدرًا على تنسيق التاريخ العالمى فى نطاق الحركة الفكرية والدلالات الفنية فى مراحل الإنسانية المتتابعة.
أما الأخير : «جون باول» الذى ظهر كتابه أواخر السنة الماضية على كتابة هذا المقال، فقد كان المرجع الأكبر أمامه هو مرجع الجغرافى الذى استوفى أسانيد الإحصاء وأنباء الصحف والإذاعة، وأخذ ينقل الأبعاد الزمانية إلى خريطة مكانية يعرض فيها مواقع الماضى كأنها تحصل فى الوقت الحاضر. ولم يتخذ له فى ذلك موقفًا مستقلا غيـر الموقف «التقليدى» الذى يختطه المسجل المعاصر ملتزمًا فيه بمظاهر «الاستنارة».
كتاب جون باول
بدأه بتقرير الواقع المشهور عن دور الإسلام بين أدوار الديانات العالمية، وهو الديانة الثالثة الكبرى- بالترتيب الزمنى- بين ديانات الأمم السامية : اليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام.
ويقارن الكتاب بين النبى محمد عليه السلام وبين السيد المسيح صاحب الديانة السامية الأخرى، وبين «بوذا» صاحب الديانة الآرية المهذبة، فيقول عن نبى الإسلام إنه مثلهما يملك العبقرية الدينية، ولكنه يمتاز عنهما بالكياسة السياسية مع القدرة العسكرية.
وحين تكلم عن العوامل الاجتماعية والنفسية التى يُعزى إليها تمكن الإسلام فى وطنه ثم انتشاره فى سائر الأوطان على نحو لا نظير له من قبله أو بعده، فإنه تغلب عليـه الفكـرة «التقليدية» عن عقيدة السيف والغنيمة، ويفوته التعليل التاريخى الأول الذى يجب أن يسبق كل تعليل، وهو انتشار الإسلام لكونه وافق العالم فى كل حاجة عامة بعد أن حان أوانها وتهيأت أسبابها.
ويتبين قصور هذا المؤلف خاصة عند تعليل الحوادث العظمى مع أنه أعرف من زميليه بتواريخ المشرق فى كل من الهند والصين والبلاد الملاوية، وهى البلاد التى يوجد بها آنذاك قرابة ثلاثمائة مليون مسلم ( يزيدون الآن كثيرًا عن هذا التقدير )، وقد دخلوا فى الإسلام بعد عصر الفتح بعدة قرون، ومن ثم لا يمكن أن يُعْزى انتشار الإسلام بينهم إلى الفتوح أو غارات البدو أو طمع فقراء البادية فى كسب الغنائم.
ويتضح هذا القصور أكثر بالمقاييس العصرية التى تعلل كل نجاح كبير. بمقدار الحاجة له والموافقة بينه وبين أشواق النفوس ومطالب المعيشة وضرورات الحياة.. ومن ثم فماذا يفعل الطمع فى الغنائم وفقًا لهذه المقاييس لو لم تكن للإسلام مزية إنسانية تطلبها العالم واستعد لاستقبالها !!
***
ومن نظراته التقليدية القاصرة، أن يعزو انتشار الحضارة الإسلامية بين الشعوب السامية والآرية، إلى استعارة ثقافتها من الثقافة الإغريقية، ويقفز المؤلف إلى اعتساف هذا الاستخلاص دون أن يكلف نفسه مؤنة البحث والمقابلة بين ذخائر التراث العربى الإسلامى فى الحكمة والطب والكيمياء والجغرافيا والتاريخ والأدب وبين الذخائر التى تخلفت باللغة اليونانية فى هذه الموضوعات.
وكان الأقرب للتحقيق العلمى فيما يقول الأستاذ العقاد- أن يواجه المؤلف لماذا حوربت الثقافة الإغريقية عند نقلها إلى الأوروبيين ولم تحارب هذه الثقافة بمثل هذه الشدة بين شعوب الإسلام على اختلاف أجناس المسلمين.
وكان أولى به أيضًا أن ينظر إلى الفن العربى الإسلامى فى البناء، ليعلم مدى استقلال الذوق العربى عن اليونان فى ناحية ثقافية من ألصق النواحى بهم وهى الفنون الجميلة.
ومع ذلك فإن المؤلف يشهد للحضارة العربية الإسلامية شهادة تشفع له فى هذه الزلة التقليدية، وهو يقرر بعد إسهابه الكلام عنها أنها لم تستتبع بعدها طورًا من أطوار الظلمات كما استتبعت الحضارة الرومانية اليونانية فى القارة الأوروبية.
* * *
ويخطئ المؤلف فى مقارنة يعقدها بين العقيدة الإسرائيلية والعقيدة الإسلاميـة فيما وردت فى كتب الديانتين، ويذكر من هذه المقارنات التى أخطأها، أن القرآن يسأل الإنسان «أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِى تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ» ( الواقعة 68، 69 )، فيرى أن هذا السؤال الإلهى كسؤال الله- تعالى- للنبى أيوب: «أأنت الذى زينـت جناحى الطاووس ؟» ويستخلص من ذلك أن العقيدة الإلهية متقاربة- إذن- بين الديانتين !!
وهذه المقارنة تنطوى على أكثر من خطأ، لا خطأ واحد.
الخطأ الأول: أن سفر أيوب الذى يعقد عليه المقارنة، ليس من الأسفار الإسرائيلية، لأنه خلا من كل إشارة إلى الفداء أو المسيح المنتظر لخلاص بنى إسرائيل، ولم يكتبه نبى من اليهود.
والخطأ الثانى: هو خطأ المقارنة بين عبارة عارضة فى سفر أيوب، وبين العبارات القرآنية التى تنتظم الكتاب كله ولا تدع فى الأرض أو السماء صورة من صور الخلق- دون إقامة الدليل بها على وجود الخالق وعلى رحمته وعدله واستغنائه بدليل العقل عن أدلة الخوارق!
وربما يشفع للمؤلف فى هذه الأخطاء، أنه خص الإسلام بالقوة الصالحة لتوثيق الوحدة «الأخوية» بين المؤمنين دون نظر لفوارق الجنس واللون أو فوارق الغنى والفقر، وإن كان قد لازمه خطأ الفهم إلى النهاية حين ختم فصله الخاص بانتشار الدين بتكرار القول بالصبغة «الحزبية» التى يزعم أنها لازمت حضارة الإسلام، وأن سرها كامن فى الدفعة «الديناميكية» الباقية منذ قيامه فيما يزعم على «عصبية الصحراء». ناسيًا فى هذا الختام أو الاعتساف الموجز، كل ما قرره هو عن خاصة «الأخوة الإنسانية» التى اختص بها هذا الدين « السمح » الكريم.
Email: [email protected]
www.ragai2009.com
الإسلام دعوة عالمية (5)
الإسلام فى تاريخ العالم من موضوعات التأليف التى كادت أن تصبح لها «دورة» فى اللغة الإنجليزية، الكتابة عن تاريخ العالم فى مجلد واحد، وقد ظهر فى الفترة الأخيرة بالإنجليزية ثلاثة تواريخ عالمية من مطبوعات المجلد الواحد، وهى : «تاريخ هـ. جـ. ويلز» المصلح الاجتماعى والكاتب القصصى،
رجائى عطية
11:07 ص, الأربعاء, 4 يناير 17
رجائى عطية
11:07 ص, الأربعاء, 4 يناير 17
End of current post