ما عرفت فصيلاً تناسى الناس حقه، كالأنصار . عرفت ذلك منذ قرأت فى السيرة وفى تاريخ الإسلام والمسلمين فيها وفيما بعدها، وتجسدت انطباعاتى واضحة جلية وأنا أراجع مجلدات « السيرة النبوية فى رحاب التنزيل » لإصدار طبعتها الثانية بعد أن أنفقت السنين فى كتابتها والاستمتاع طوال هذه السنين بعبق السيرة ومجاورة الرسول عليه الصلاة والسلام .
طالعتنى فصول ومشاهد نصرة الأنصار منذ بيعة العقبة الأولى ثم بيعة العقبة الثانية بمكة، بهما فتح الأنصار رحاب يثرب المدينة المنورة، لتستقبل الإسلام ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، ولتهيىء لهما الباحة والأمان والسلام لتنطلق الدعوة من هناك متخلصة متخففة مما لاقته من عنت ونكير وشنف وأذى وعذاب الكفار والمشركين وطواغيت قريش فى مكة، ولتتحول ساحات العذاب والتعذيب فى رمضاء مكة، وفى بيوت المشركين، إلى واحة سلام ونصرة وأخوة وأريحية وكرم ورعاية وعناية وتضحية وفداء وإفتداء بالنفس والمال على مدار نيف وعشر سنوات حتى أبلغ المصطفى ﷺ رسالة ربه، ودخل الناس أفواجًا فى دين الله، وعَمَّ ضياؤه الجزيرة العربية وانطلق منها إلى ما حولها، ولم يتراجع عطاء الأنصار بعد أن قبض الرسول عليه السلام ولاقى ربه وبدا أن قريشًا يوم السقيفة لا تسلم لأحدٍ غيرها بولاية الأمر بعد إنتقال الرسول ﷺ إلى رحاب ربه .
يتجلى دور وعطاء الأنصار، بمقارنة ما كان الإسلام والمسلمون يواجهانه بمكة قبل بيعة الأنصار والهجرة إلى يثرب .. حيث صارت « المدينة المنورة » إسمًا على مسمى يتفق مع ما أتاحته من بيئة كريمة طاهرة نقية معطاءة للإسلام والمسملين .. صفحات الأذى والعذاب والتعذيب فى مكة، لا يجهلها مسلم .. لحقت بالدعوة وبالداعى وبكل من آمن بهما، لم تكتف بالعبيد والمستضعفين، وإنما طالت أبناء الأشراف والسراة، وتجرأت على رسول الله عليه الصلاة والسلام .. يطالع القارئ للسيرة ما لحق ببلال بن رباح، وبعمار بن ياسر وأمه سمية ووالده ياسر، وبخباب بن الأرت، وعبد الله بن مسعود، وصهيب بن سنان، مثلما لحقت بمصعب بن عمير، وسعد بن أبى وقاص، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن العاص، ويطول الأذى أبا بكر، ويطول الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام، فتلقى أم جميل إمرأة عمه أبى لهب بالنجس والقذورات أمام بيته، ويلقى أبو جهل بسقط الذبائح عليه وهو يصلى بالكعبة، ويلاحقه الكبار والصغار وسفهاء مكة بالهزء والسخرية والنكير .. فلا يجد عليه الصلاة والسلام مناصًا من أن يقول لأصحابه من هول ما يلاقونه من عذاب شديد فى الله : «تفرقوا فى الأرض .. فسيجمعكم الله تعالى ».. وحين يسألونه إلى أين يا رسول الله ؟ يقول لهم : «إلى الحبشة .. فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه ».
هاجر المسلمون إلى الحبشة فرارًا من هذا البطش هجرة أولى ثم ثانية أوسع وأكثر عددًا، فلاحقتهم قريش هناك، وأوفدت لأذاهم والدس لهم والتحريض عليهم عند ملك الحبشة أوفدت عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى ربيعة، فلما فشل مسعاهما، استدارت إلى بنى هاشم، فنابذتهم وأخرجتهم جميعًا إلى الشِّعب، وكتبت صحيفة علقتها فى جوف الكعبة .. تعاهدت فيها قريش ألا ينكحوا بنى هاشم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تاخذهم بهم رحمة ولا شفقة ولا رأفة عقابًا لهم على أن الرسول عليه الصلاة والسلام منهم، ولا نجاة لهم حتى يسلموه إليهم ليقتلوه !!!
ثلاث سنوات والرسول ﷺ، هو وبنو هاشم، محصورون فى شعاب مكة، لا يزارون ولا يزورون، ولايُباع إليهم ولا يبتاعون، ولا يزوجهم أحد أو يتزوج منهم أحد .. والحياة المحصورة فى الشِّعْب لا شىء فيها من أسباب الحياة .. لا كلأ ولا مرعى ولا سبيل إلى الماء إلاَّ بشق الأنفس !!
وتتتابع الخطوب، فلا يرحم السفهاء حزنه عليه السلام، فيتعرضون له وهو راجع من دفن زوجه خديجة، فيحثون التراب على رأسه الشريف .. ويتربصون به فى كل مكان، أمام بيته، وفى طرقات مكة، وفى البيت المحرم .. يتكالبون عليه وهو يصلى فى حجر الكعبة، يجأونه ويدفعونه بعنف، ويأخذون بخناقه ويخنقونه خنقًا شديدًا، لولا أن مَرّ أبو بكر بالصدفة فأنقذه من بين أيديهم وطفق يقول لهم : «أتقتلون رجلاً أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟ ! »
ولم تخجل قريش، أو يرعوى سفهاؤها، فجعلوا يلقون بسقط الذبائح وجلودها وأمعائها أمام باب داره، ويسخرون منه ويلمزون عليه، ويلقى البعض على ظهره وهو يصلى بالكعبة بقايا جزور منحور، ويتطاول عليه أبو جهل ويسبه سبًّا قبيحًا .. لا يمر يوم إلاَّ وتتابع قريش تآمرها ونكايتها وآذاها، وتحرض السفهاء والجهلاء على ملاحقته بالإيذاء والسخرية والاستهزاء .. يرنو عليه الصلاة والسلام إلى الطائف لعله يجد فيها ما يفرج كربته مما يلاقيه من طواغيت قريش وكفار مكة، فلا يجد بعد رحلته الطويلة فى الصحراء القاحلة، سوى صنف آخر من النكير والإيذاء .. يلاقيه من لجأ إليهم من ثقيف بأسوأ لقاء، فيقول له أحدهم ساخرًا : «لأقطعن وأهتكن ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك !» ، ويقفى آخر مستهزئًا : « أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك ؟ ! » ، ويقول ثالث : « واللات لا أكلمك أبدًا .. لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم حقًا من أن أكلمك، ولئن كنت تكذب على الله لأنت شر من أن أكلمك »!
وجعل السفهاء يعترضون طريقه فيقعدون له على الجانبين، يغرون به السفهاء والغلمان والعبيد يسبونه ويصيحون به أن يخرج من بلدهم، ويسدون عليه الطريق، ويقذفونه بالأحجار .. لا يرفع عليه الصلاة والسلام رجلاً ولا يضع رجلاً إلاَّ رضخوها بالأحجار حتى دميت رجلاه وتخضبت نعلاه بالدماء .. كلما أذلقته الحجارة، يقعد عليه الصلاة والسلام إلى الأرض، فيأخذونه بعضديه ويقيمونه، فإذا مشى يرجمونه ضاحكين مستهزئين، لم يستطع أن يستخلص نفسه منهم إلاَّ بعد عناء شديد، ليستند إلى سور بستان وظل كرمه عنب، كان عبد صاحبيها عتبة وشيبة ابنى ربيعة أرفق به منهما حين أرسلاه إليه، فسالت عبراته واتجه إلى السماء يدعو ربه ويشكو إليه ما يلاقيه من أذى ويقول : « اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى وهوانى على الناس .. يا أرحم الراحمين .. أنت رب المستضعفين وأنت ربى .. إلى من تكلنى؟ ! إلى بعيد يتجهمنى، أو إلى عدو ملكته أمرى ؟ !.. إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى .. ولكن عافيتك هى أوسع لى . أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بى عضبك أو تحل علىّ سخطك . لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك »!
( يتبع )