هل بوتين هو صاحب محل أوروبا الشرقية؟ تتسم إدارة روسيا للأزمة الأوكرانية بمنهجيات إدارة صاحب المحل لشئونه الداخلية! رغم وقوع هذا المحل فى قارة، وجود جيران وأعدقاء (أعداء/ أصدقاء) لا يقلّون عنها سيادة وقوة. المشكلة اعتبار أوكرانيا فرعًا من فروع الاتحاد السوفيتى القديم! ترجع الجذور التاريخية للصراع بين صاحب المحل وأوكرانيا على ميراث الأمير «ياروسلاف الحكيم» موحّد الإماراتين بين بحر البلطيق والبحر الأسود بالقرن الـ11م، وكوصف «وول ستريت جورنال» فرُفات الأمير ياروسلاف أساس الخلاف التاريخى للحشد العسكرى الروسى المتورم يوميًّا، حيث يؤمن بوتين بأنه لا وجود لأوكرانيا كدولة مستقلة، ولهما تاريخ واحد وثابت! الأمر المنكور أوكرانيًّا بعد اكتشافها رفات ياروسلاف، كدليل وبرهان رمزى لها ولسيادتها، وتوتر أعمق مع صاحب المحل!
الموضوع لروسيا أخطر من ذلك؟ فأوكرانيا من الأربعة الأوائل أوروبيًّا لإنتاج الأمونيا، محطات الطاقة النووية، وطول شبكة القطارات، واحتياطيات اليورانيوم، والحديد، والتيتانيوم، والزئبق والغاز الصخرى، و%25 من التربة السوداء من حجم العالم وصادراته لزيت عباد الشمس! وبالعشرة الأوائل عالميًّا للفحم، والنحل، والذرة، والقمح وأجهزة GPS، والتاسعة عالميًّا لصادرات الصناعات الدفاعية! وفصلها يَحرم موسكو جيوبوليتيًّا من السيطرة على البحر الأسود وخسارة اقتصاد زراعى وصناعى غنى وضخم، ومع الدعم الأمريكى ومغازلات الانضمام للاتحاد الأوروبى ومناورات الناتو بالبحر الأسود، أصبحت أوكرانيا شوكة وليس فقط إرثًا قديمًا! ورغم إستراتيجية روسيا دوليًّا وتعميق تحالفها الصينى وانخراط الحلف الأوراسى بمشروعات طريق الحرير، يدير الدب الروسى الصراع كخلافات صاحب المحل مع أمين المخزن والمتنمّرين من صبيانه!
اقتصاديًّا وسياسيًّا؛ سيعرف العالم تداعيات خطرة (للروليت الروسى)! فغير محسوم متى تنفجر الطلقة، المهددة لدول كثيرة تعتمد على القمح الأوكرانى كمصر ولبنان وليبيا واليمن؟ بخلاف %40 من الغاز الروسى يمر عبر أوكرانيا، بما قد يجعل أسنان أوروبا تصطكّ صقيعًا، ويعزز اعتماد أمريكا للغاز القطرى ويدرّ بلايين جديدة، توظفها قطر لأجنداتها الخاصة بالمنطقة، مدعومة بمن تدفئهم وتغذّيهم!
الربط المجازى لاقتصاد صاحب المحل بالصراع الروسى الأوكرانى يستحضر سيطرة صاحب محل التجزئة على تجارته بمكان معين، يضيف لها مع بيع السلع، خدمات التسليم أو التوصيل أو الصيانة، “فالتجزئة” تحتاج إليها خدمات احتياجات الأعداد الكبيرة من الأفراد، كالمرافق العامة والطاقة الكهربائية… إلخ. هذا النموذج تبنّاه الاقتصاد السوفيتى القديم لإدارة اقتصادات دول الاتحاد، بما جعل موسكو صاحبة محل كبير جدًّا، تمرد موظفيه ومورّديه بالنهاية واستقلوا بمحالّهم وأكشاكهم، لتتطور بالحقبة الأخيرة، وينموا العديد منهم ليزعجوا صاحب المحل، بتعاملاتهم مع أعدقائه!
نموذج المحل السوفيتى يمكن استحضاره بمختلف المستويات والكيانات والدول أيضًا! تشهد العديد من دول العالم الثالث إدارة اقتصادها بنظرة (صاحب المحل)، الذى قد يكون صاحب الدكان، وليس البضاعة التى فيه، أو صاحبهما معًا، فيمنح ويمنع! يضيق ويوسع! يفتح ويغلق! يوظف ويرفت! يُثرى ويُفقر! رؤية صاحب المحل (ولو دولة) عادةً تفتقر لرؤية العمل المؤسسى، العماد الحقيقى للاقتصاد القوى. وبقدر تخصص وتعلم وتمرس وخبرة صاحب المحل، بقدر نجاحه بتدوير تجارته ونمائها، ومع ذلك يبقى (محلاًّ) وليس مؤسسة، تحكمها رؤى وخطط وعلاقات بالسوق المحلية والإقليمية والدولية، وتربطها بالاقتصاد العالمى. اقتصاد صاحب المحل يعتمد بالضرورة على وجهة نظر (وليس رؤية) مع توقعاته وسيولته المالية ومصداقيته سوقيًّا، لتأمين بضاعة بالأجل أو قروض أو كسب عملاء جدد أو فتح فروع… إلخ.
الأمر مختلف تمامًا بالعمل المؤسسى المعروف علميًّا وعالميًّا بأسسه وضوابطه وأهميته، بما قد يحوِّل صاحب المحل لشركة قابضة مثلًا! فبدون الانفتاح والنضج الاقتصادى، واستحكام عقلية السيطرة والملكية الفردية، ينعدم العمل المؤسسي! وبدون الإدارة الصحيحة بالمهارات الإدارية والتخطيط، سيبقى المحل أسيرًا للمهارات التخصصية!
ولعل أخطر ما بالعمل المؤسسى تأسيسه على رؤية يُلمّ بها العاملون بالمؤسسة وتوطين المتعاملين عليها، وليس وجودها فقط بعقل الرئيس! ففردية وجهة نظر صاحب المحل وتسخيره منسوبيه لتنفيذها، عصفورًا بقفص لن يحلق لآفاق بعيدة، والأخطر تجمُّد الرؤية النظرية ورفضها التطوير لمصلحة عائلة ومنسوبى صاحب المحل، لانتقاله من تجارة التجزئة لمؤسسة تجارية.
الأخطر مما سبق؛ اقتناع أو إقناع صاحب المحل بأنه مؤسسة، وهو مدير لكشك كبير جدًّا! ومن ثم يأتى النموذج الاقتصادى والخطط والحلول والقوانين والنظم والأداء والخدمات بظاهرية المؤسسة وحقيقة المحل! ولنا بالاتحاد السوفيتى عبرة! منذ 1917 والشيوعية تدير فلكها كمحل كبير جدًّا.. تحلل مع الزمن لعجزها عن التحول المؤسسى بالمفهوم الكبير! تعلمت الصين من الدرس، واحتفظت بالشيوعية كمذهب اقتصادى، طوّعته لمصلحتها بتطوير المؤسسية الرأسمالية! ونجحت باختراق العالم بتقوية قطاعها الخاص ليتوغل عالميًّا، وكفلت لبنوكها وشركاتها استحداث آليات وصلاحيات مالية وإدارية وإجرائية- داخل منظومة الدولة- جعلتها تبتدع طريق الحرير لتحزيم تجارة العالم، برؤية عالمية سخّرت لها كيانات الدولة وقطاعها الخاص، ليحقق هذه الرؤية المؤسسية، خارج فكر صاحب المحل القديم.
من أخطر المحاور التى تعوق الفكر المؤسسى، فكر السيطرة واحتكار وجهة النظر مهما كانت أسبابه، ولو أمنية! فمع تطور التكنولوجيا ونظم الإدارة والهيكلة والرقابة والمتابعة، يوجد علاج لأية مخاوف تتخذ من الأمن والأمان درعًا ضد التطوير المؤسسى، فتخوفات صاحب المحل لإرثه، أو سرقة اللصوص، أو إفشاء معلوماته، أو غدر المحاسبين، أو تشرس الفئران، أو تمرد الصبيان، أو تدلل الموردين، أو قسوة القروض… إلخ، كل ذلك أصبح له علاجات ناجعة تعتمد أساسًا على اقتناعه برؤية العمل المؤسسى، وجدارته بالتحول من صاحب محل لمؤسسة قابضة تعترف بحق منهجية الغُنم بالغُرم وحساب المخاطر، لتحقق مصالح المواطن ونمو الاقتصاد واستقرار المستقبل.
اقتصاد صاحب المحل الروسى يفتح الحوار حول توقيت لحاق دول العالم الثالث باقتصاد العمل المؤسسى، دائمًا ما زال هناك وقت ما دامت هناك حلول! فقط مطلوب الخطوة الأولى لتجاوز جسر المحل.. لرؤية المؤسسة، لتبدأ أية دولة جديدة.
* محامى وكاتب مصرى