تضيف الأزمات الجيوسياسية التى تزايدت مؤخرا حول العالم سبا حقيقيا لتفاقم معاناة الاقتصادات الهشة التى أخفقت فى سباق تنويع الاقتصاد بعيدا عن الموارد الطبيعية، لكنها أبدأ لا تمنع الدول من خلق الفرص لنفسها عبر تنفيذ سياسات التعافى المستدام غير المعتمد على استنزاف ثرواتها.
الأوضاع العالمية غير المستقرة، والتقلبات الحادة فى أسعار المواد الخام والسلع، كانت فى الحقيقة نقطة انطلاق لدول عديدة قدمت نفسها كنموذج للتعامل مع الظروف القاسية غير المتوقعة أو المعتادة مع تحقيق نتائج مذهلة.
حدث هذا مع إندونيسيا فى ثمانينيات القرن الماضى، وكررته بشكل أو بآخر دول نامية أخرى كتشيلى ورواندا.
وقدمت البلدان الثلاث على مدار الأعوام العشرين الماضية تسارعاً ملحوظاً فى معدل لحاقها كدول فقيرة بالبلدان الأكثر ثراء، إلى جانب دول عديدة حظيت باهتمام الإعلام الدولى مثل الصين وبنجلاديش، وجمهورية الدومينيكان، وبولندا.
إندونيسيا
بدأت الحكومة الإندونيسية إصلاحات واسعة النطاق فى الثمانينيات مع صدمة انهيار أسعار النفط.
وتضمنت التغييرات الرئيسية فى السياسات إصلاح القطاع المصرفى والتخفيض التدريجى للتعريفات الجمركية على الواردات وتفكيك الحواجز التجارية غير الجمركية، بحسب موقع “أكاديميا كوب”.
وأدت هذه التغييرات إلى زيادة كبيرة فى نمو صادرات الصناعات التحويلية وتحسن ملحوظ فى أداء عوامل الإنتاج بقطاع الصناعات التحويلية.
وبين عامى 1983 و1992، ارتفعت حصة المصنوعات فى صادرات البضائع من %7 إلى %50.
ولعبت الدولة دوراً تنموياً نشطاً من خلال توجيه عائدات النفط نحو المشاريع الاجتماعية (الزراعة والتعليم والبنية التحتية)، ومن خلال دعم تنمية الصناعات كثيفة رأس المال.
بحلول عام 1996، انخفض معدل الفقر فى إندونيسيا إلى حوالى %11 بعد أن كان %45 فى عام 1970، وزاد متوسط العمر المتوقع بنحو 20 عامًا فى نفس الفترة.
كما زاد الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى ستة أضعاف فى الفترة 1981 – 2015، مع ارتفاع مساهمة التصنيع بشكل كبير، وبالمثل ارتفعت نسبة السكان الذين يعيشون فى المناطق الحضرية من %17 إلى %53 خلال هذه الفترة.
واستمر استهلاك الطاقة المحلى فى الارتفاع بينما انخفض الإنتاج، مما جعل إندونيسيا مستوردًا صافيًا للطاقة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين.
وتشمل السلع الأخرى التى تعد إندونيسيا منتجًا عالميًا رئيسيًا لها القصدير (%27 من الاستخراج العالمى فى عام 2009)، والنيكل (%15 من الاستخراج العالمى فى عام 2009)، والنحاس (%6 من الإنتاج العالمى فى عام 2009)، والفحم (%4 من الإنتاج العالمى فى عام 2009).
ورغم ذلك، فإن مساهمة الموارد الطبيعية فى الناتج المحلى الإجمالى أقل من %10 فى السنوات الأخيرة.
رواندا
تمكنت رواندا من تنويع الصادرات بنجاح وفى الوقت نفسه رفع قيمة صادرات السلع التقليدية.
ونجحت رواندا فى زيادة صادراتها بنحو %20 سنويا من عام 2000 إلى عام 2016، وخلال هذه الفترة، أصبحت الصادرات أقل اعتمادا على منتجات التصدير التقليدية الثلاثة للبلاد: (الشاى والقهوة والمعادن).
وتضاعفت قيمة صادراتها الإجمالية أكثر من ثلاثة أضعاف، من 415 مليون دولار أمريكى إلى 4.125 مليار دولار.
وقد ساعدت السياسة التجارية التى تركز على إضافة القيمة على التخفيف من آثار التقلبات فى أسعار السلع الأساسية الدولية.
ويتجسد ذلك فى استراتيجية الحكومة للبن، التى أدى تركيزها على تحسين الجودة إلى زيادة أسعار بعض الأصناف بمعامل 5.
وقد ساعدت هذه الجهود فى تعويض الانخفاض فى الأسعار الدولية بين عامى 2011 و 2015، ومن خلال الاستمرار فى زيادة القيمة المضافة، تمكنت رواندا من إعادة عائدات الزراعة لسابق عهدها بمجرد انتعاش أسعار السلع الأساسية.
وعلى نحو مماثل، حولت رواندا نفسها إلى اقتصاد الخدمات، مع تطلعاتها للتغلب على وضع البلاد كدولة غير ساحلية من خلال تطويرها إلى مركز إقليمى للخدمات المهنية والتجارية.
وتأتى نصف عائدات التصدير فى رواندا بالفعل من الخدمات، حيث تقود السياحة فى محميات الغوريلا الجبلية الطريق، يليها النقل، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبناء، والتمويل.
وفى الوقت نفسه، يساهم تحسين جودة ونطاق مدخلات الخدمات المحلية بشكل مهم فى زيادة القدرة التنافسية للبلاد فى صادرات السلع.
كما بدأ القطاع الصناعى غير المعدنى فى رواندا فى التصدير، خاصة للتصنيع الزراعى، وفى حين ظلت الصناعات الخفيفة ثابتة على نطاق واسع فى حصة الصادرات، إلا أن قيمة صادرات القطاع شهدت زيادة بمقدار أربعة أضعاف منذ عام 2005، مما يعكس ارتفاع قيمة الصادرات فى عدد من الصناعات الجديدة، بما فى ذلك الملابس والمنتجات الجلدية والأجهزة الميكانيكية والمشروبات.
ولعبت الأسواق الإقليمية دورًا مهمًا فى الحفاظ على جهود التنويع فى رواندا، وشهدت البلاد زيادة كبيرة فى تجارة السلع البينية الإقليمية بعد انضمامها إلى مجموعة شرق أفريقيا فى عام 2009، بدعم من تحسين الاتصال بموانئ مومباسا (كينيا) ودار السلام (تنزانيا).
تشيلى
تتمتع كل من تشيلى وزامبيا بوفرة فى رواسب النحاس، ويعتبر النحاس منتج التصدير الرئيسى لكلا البلدين.
كما أنهما يشتركان فى نفس الحجم السكانى ولكنهما يختلفان بشكل كبير فى مستويات الدخل، بحسب تقرير لمجموعة البنك الدولى.
ويبلغ نصيب الفرد من الدخل فى تشيلى أكثر من 21,000 دولار أمريكى، بينما يزيد قليلاً فى زامبيا عن 3,800 دولار أمريكى.
وقبل خمسين عاما، كان كلا البلدين ينتجان كميات مماثلة من النحاس، وكان لديهما أيضًا أنماط مماثلة لملكية رواسب النحاس، حيث تلعب الشركات المملوكة للدولة دورًا رئيسيًا.
ومع ذلك، كان أدائهما الاقتصادى على المدى الطويل مختلفا إلى حد كبير، وزادت تشيلى إنتاج النحاس بشكل مطرد فى حين ظلت زامبيا راكدة، رغم حدوث انتعاش منذ عام 2000.
وفى حين خفضت تشيلى تدريجيا مستوى اعتمادها على الموارد، أصبحت زامبيا أكثر اعتماداً على الموارد: حيث يمثل النحاس حالياً %50 من صادرات تشيلى فى حين يمثل %80 من صادرات زامبيا.
اتبعت تشيلى استراتيجية تنويع ذات مسارين: تنويع الصناعة عبر زيادة القيمة المضافة فى صناعة النحاس من خلال تحسين جودة استخراج النحاس وتصدير المنتجات المصنعة واستكمال ذلك بتطوير الخدمات المساعدة / اللوجستية المحلية.
واشتمل المسار الثانى على تنويع الصناعات عبر تنمية مصايد الأسماك، وزيادة صادرات سمك السلمون عالية الجودة، وزيادة صادرات السلع الزراعية ذات القيمة المضافة العالية مثل إنتاج الفواكه والخضروات والنبيذ.
وتم اتخاذ إجراءات بهدف حماية مستويات الإنفاق فى البلاد ضد تقلبات النحاس، وهذا يضمن استقرار الاقتصاد الكلى ويولد أيضًا تراكم الثروة عندما تكون أسعار النحاس مرتفعة، وتم إنشاء الصناديق السيادية لإدارة الإيرادات التى تم توفيرها.
استثمرت تشيلى قدرًا كبيرًا من المدخرات فى التدريب على المهارات المتقدمة، إذ تمت إتاحة المنح الدراسية لتسجيل التتشيليين فى أفضل الجامعات العالمية وتمويل وتوجيه الشركات الناشئة ذات النمو المرتفع.
على عكس تشيلى، التى تتمتع بموقع ساحلى، فإن زامبيا بلد غير ساحلى وترتفع تكاليف التجارة والنقل فيه، ولم يكن النمو شاملا وكان الفقر منتشرا على نطاق واسع فى زامبيا، حيث تشير التقديرات إلى أن 61.2 فى المائة من السكان يعيشون تحت خط الفقر الوطنى.
وبسبب غياب التنويع، لم يسفر النمو المستدام والاستقرار السياسى المستمر إلا عن تحسينات متواضعة فى سبل العيش فى زامبيا.
وكان تأثير النمو الاقتصادى على الحد من الفقر بشكل عام ضئيلا، حيث إن قدرا كبيرا من فوائد النمو قد تراكم على أولئك الذين هم بالفعل فوق خط الفقر.
وكان النمو مدفوعا فى المقام الأول بالتعدين والبناء والخدمات المالية، ولم يسهم كثيرا فى خلق فرص العمل وتوسيع الفرص بما يتجاوز القوى العاملة الصغيرة نسبيا المستخدمة بالفعل فى هذه الصناعات.