ولقد صنع شرف الميدان فتية مصريون خرجوا اليه فى النصف الثانى من يناير 2011 دون أى اهتمام بالعودة الى بيوتهم وفى إدراك كامل لمخاطر ذلك الخروج، حيث انتظرتهم جحافل أمن مبارك الجهنمى الذى جعل منه «مبارك والأسرة المالكة » سور حماية لنظامه «القمعى » يقوده جزارو مباحث أمن الدولة «الحاملون » لصكوك غفران مبارك عن كل ما يفعلون وما أكثر ما كانوا يفعلون، ومع الصكوك أفرط مبارك فى كرمه ـ من عرق الفقراء ـ برواتب هائلة لم نعلم ـ حتى اليوم ـ عن أرقامها شيئا، وأظن أننا لن نعرف .. أبدا !
وفى اصطدامات ـ ببغير تكافؤ بين القوة المفرطة وبغير سلاح مع القادمين ـ استمرت ساعات ليل وساعات نهار سقط خلالها من استشهد، وحملت سيارات الإسعاف الى «مسالخ أمن الدولة » كل من أصيب، وكل من أمكن اعتقاله ليتساوى الجميع فى النتيجة ليموت مع الشهداء كل المصابين وكل الذين تم اعتقالهم، ذلك أن أحدا منهم لم يعد ليحكى لنا مأساته مع الجهاز الذى كان يقتل المصريين بنفس البساطة التى يذبح بها «الفرارجية » برابر الفراخ والديوك بعد السلخ .. ونتف الريش !
ومن تلك التضحيات الهائلة التى لم تكشف أوراقها بعد صنع هؤلاء الذين خرجوا الى الميدان لصناعة الثورة «الأسطورة » التى جعلت «شرف الميدان » يتساوى مع «عرض المصريين » بما لا يخضع للمناقشة ولا لكثير الكلام وهو ما أدركه الرأى العام الدولى أكثر من المصريين ـ عندما منح الميدان القاهرى كل احترامه فى أول «إجماع دولى » يحظى به مكان فوق ظهر الأرض الى درجة تسابق كل قيادات ذلك العالم السياسية من ذوى الوزن الثقيل الى زيارة الميدان ليجربوا بزياراتهم تلك لذة الاختلاط بأولئك الذين وضعوا فوق وجه القرن بصمة لأشرف الثوار .. وأشرف الثورات التى استولت ـ لأيام كثيرة ـ على المانشيتات الرئيسية لأكثر صحف العالم توزيعا وشهرة، وهى التى حولت الميدان الى مزار سياحى مقدس بل تحول الى ما يشبه «قدس الأقداس » فى معابد مصر القديمة .
ولقد هزم عزم الشباب الذى خرج لإسقاط مبارك خاصة بعد غباء «موقعة الجمل » كل الذين غطوا أسفلت الميدان والشوارع المؤدية اليه ببحيرات من دمائهم، وهى الدماء التى هزمت «الفئة الطاغية » من أمن مبارك الذين ادركوا قبل هزيمتهم بلحظات أن تلك الدماء هى فتح مطلق لطريق «الاستشهاد » بغير عودة، كما ادركوا فى لحظاتهم الأخيرة أنهم يتعاملون مع «صنف جديد » من المصريين لم يألفوه، ومن ثم قنعوا من الغنيمة بالإياب بعد أن افرغوا طلقات كل ما يملكون من أسلحة فى صدور هؤلاء بما أتى على كل مخزون «ذخائر العادلى » بما فى ذلك عصى الأمن المركزى وسواتره المستوردة من خارج الديار بميزانية سنوية لداخلية مبارك كادت تصل الى عشرة مليارات من الجنيهات دخل جزء منها جيوب العادلى .. ومساعديه مع ما تيسر من قصور .. وفيلات !
وبتلك الجولة السريعة على ما شهده الميدان من أحداث لصناعة تاريخ لم يكتمل بعد، فهل من المعقول أن نقبل إلحاق كل ذلك التلوث بشرف الميدان الممتلئ الآن بزبالة الشعب المصرى من قوادين وتجار مخدرات وساقطات يقتسمن نفس البطانية مع شباب قادم من تحت الكبارى، مع ما تيسر من بائعى الكشرى والبطاطا المسلوقة وشباشب الزنوبة والملابس المستعملة .