المفهوم الرئيسى للكد والسعاية بالتراث الإسلامى، هو حفظ حقوق حبيبة بنت زريق العاملة المجتهدة بتنمية ثروة زوجها عمر بن الحارث، بحكم عمر بن الخطاب بمنازعتها عند وفاة الزوج، وكانت حبيبة نساجة طرّازة، وزوجها يتاجر فيما تنتجه حتى اكتسبا مالا وفيرا، فلما مات الزوج وترك المال والعقار، تسلم أولياؤه مفاتيح الخزائن ونازعتهم الزوجة، فاختصموا لعمر، فقضى لها بنصف المال وبالإرث بالباقى. يكاد يُجمع بأن (حكم) عمر فتوى اقتصادية بواقعة عين، ببيئة خاصة، بحكم خاص، وليست تشريعاً جديداً، ولا نصاً مرجعياً، ولا تجوز إشاعتها كحكم شرعى يُقتدى به ويُحتذى، فهو من باب الديون يستحقها صاحبها رجلا كان أو امرأة قبل تقسيم تركة الميت.
عند هذا الحد وحكم عمر واضح، ثبت فيه كد وسعى الزوجة بعملها كنساجة، ومتاجرة زوجها فيما تنتجه كشركة واقع بينهما (ولو لم توثق). دعا فضيلة الإمام الأكبر المجدد، لإحياء فتوى الكد والسعاية بمناقشتها؛ خاصة بظل المستجدات العصرية التى أوجبت نزول المرأة لسوق العمل ومشاركة زوجها أعباء الحياة، كمساهمتها بزيادة ثروة أسرتها، سواء براتب عملها أو ببنائها منزلًا أو بامتلاكها لشركة. الدعوة لإحياء الفتوى بمناقشتها (وهى محمودة الطرح وإثباتا لموضوعية فضيلته بمناقشة التراث لا تقديسه)، صاحبها دعم العديد من الرسميين، للتقدم بقانون يبحث حق المرأة المطلقة للحصول على نصيبها بثروة الرجل، ولو لم تشارك بأموالها بتنمية الثروة، ولكن ساهمت بتحسين بيئة المنزل وتربية الأبناء بالوجه الأكمل!
غير أن؛ فرقًا كبيرًا بين «أمارة» الكد والسعاية وبين «إمارة» الكد والسعاية! فأمارتهما العُمرية لاستحقاق الزوجة هى توفر علامة وشروط ثبوتهما – بلا إطلاق أو تعميم . أما إمارة الكد والسعاية فهى ترقية قاعدة من قواعد المجاملات لقاعدة قانونية بالنظام القانونى للدولة! وللتحديد فقواعد المجاملات تستند لعادات وتقاليد تجرى بين الناس بمجتمع ما، لتيسير حياتهم وجعلها مهذبة وسعيدة.
مرجعية سن القواعد بأى دولة أو إمارة، إما لقاعدة دينية مصدرها الشرع بكتاب الله(خاصة بفرض الحقوق والالتزامات كنظام المواريث بالإسلام المعتمد لانفصال الذمة المالية للزوجين) أو قاعدة قانونية مصدرها المشرع الوضعى (كاقتسام الثروة عند الطلاق بالقانون الأمريكى أو التوزيع العادل للممتلكات بقانون الزواج والطلاق الموحد، المادة 307. (UMDA كقانونى وعضو مجتمع، أحترم دعوة الإمام الأكبر وداعميها لإحياء فتوى آحاد (ليست من الكتاب ولا السنة، ولم تكرر للآن إفتاءً أو قانونا ببلد إسلامي)، ومناقشة ترقيتها باقتراح ضمها كقاعدة قانونية بقانون الأحوال الشخصية الجديد، تحتاج تدبرا موضوعيا وشكليا واجتماعيا واقتصاديا، تجعلنا نتدبر الغاية النهائية لجبر المطلقة أو الأرملة، مقابل فتح باب لزخم تناقضات يلزم تدبر أبعادها ونتائجها!
فعنوان (امارة الكد والسعاية) بدون تشكيل لكلمة «امارة»! يفتح سؤالا؛ أنكون بصدد أمارات أو علامات توفر فتوى دينية فقط لمستحقتها كحالة حبيبة بنت رزيق، ويوافق عليها المُطلق أو يرفض – أم سنكون بصدد إمارة كد وسعاية بنص وقاعدة قانونية عامة ومجردة وملزمة ومعاقب عليها؟
عرفت القوانين الأمريكية وأغلب الغرب اقتسام ثروة الزوجين بالطلاق (بدون حبيبة بنت رزيق)، لتعاملهم مع الزواج كشركة اقتصادية قائمة على النظرة المادية، للحياة الغربية بدول مدنية، راسخة المواطنة، لا يُعرف الفرد فيها بجنسه أو بمهنته أو بدينه أو بإقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا كمواطن، وعضو مجتمع له حقوق وعليه واجبات، وعليه فللزوجين التناصف وليس الزوجة فقط (أتساءل لو كانت حبيبة هى من توفيت أولا، واستصدر زوجها الفتوى من الفاروق ليحكم له بنصف ثروتها وبالإرث بالباقى، التى تفننت بنسجها وكانت ستبقى راكدة، لولا كد وسعاية زوجها بتسويقها والسفر بها وبيعها إلخ)؟؟
هنا ملاحظة التجربة الغربية لاقتسام ثروة الزوجين بالطلاق؛ يحدها جوهر الكد والسعاية للرجل والمرأة معا، بمنظومة متكاملة لتنمية المجتمع داخل دولة مدنية بحقوق مواطنة ونظم عمل وإدارة وقوانين تضمن عدالة الفرص والحساب، بلا تعدد الزوجات أو وضع المرأة بالمجتمع الاسلامى، (الكد والسعاية الغربية يشملان عمل الأولاد بسن 10 سنوات ويستقلون بعد الـ 18). ولكن غلب الخبث الغربى الوبال المالى بالطلاق، برفض الطرفين الزواج حفظا للثروة، تسجيل الرجل ممتلكاته بأسماء آخرين، المعايشة الحياتية بدون زواج تجنبا للتقسيم بالطلاق، صداقات الزوجات لعدم سلب زوجها النصف بالطلاق إلخ.
ترقية فتوى الكد والسعاية – بجدلها الفقهى المؤيد والمعارض – لنص قانونى مُرشد دينيا بدون دولة مدنية، وبمواطنة ضبابية ومجتمع يقوم على أكتاف الرجال، سيجعلنا إمارة الكد والسعاية، بقاعدة قانونية عامة مجردة، تطبق على عموم النساء ولو بدون مساهمة أو تنمية لثروة زوجها، بدعوى مساهمتها تحسين بيئة المنزل وتربية الأبناء بالوجه الأكمل!
ولكن مجرد متابعة الدراما المصرية بعد 1985، تجعلنا شهود عيان لتطور تجريف العائلة والمجتمع المصرى، وتخويخ المنزل والأبناء وتدنية دور الأم بالوجه الأكمل، بتعرضهم للاختراق والتفتيت وتهرؤ الوعى الجمعى بالمخدرات والدراما السوداء والمهرجانات والجنس والتطرف والعنف وأموال المغتربين وتعدد الزوجات والتضخم وعقوق الأولاد.. إلخ.
قوة القاعدة القانونية فى عمومية المخاطب بها وإلزاميتها وجزائها. فماذا عن المتزوج باثنتين أو أكثر وهو حلال وقانوني؟ المغترب وترك الزوجة وأولاده وأفسدهم جميعا ماله رغم تنميته بمفرده؟ الزوجة الثانية أو الثالثة التى نمت فعلا ثروته، والأولى التى تؤلب الأولاد عليه وتحرمه منهم ويبقيها لأجلهم؟ الزوجة فاقدة الأهلية لجنون أو حجر؟ بل ما موقف نموذج خديجة بنت خويلد ورسول الله (ص) ويدعمها زوجها لنمائها! فإن طُلقت تقاسمت وغنمت، وغرم زوجها وحُرم كده وسعيه؟
عندما ترقت فتوى تحريم التدخين لنص معاقب عليه لحفظ صحة الإنسان، توفر للنص صفات المواطنة والعدل والمصلحة والسبب، ولم يلحق ضررا بشريك المدخن مثلا! أما تحور فتوى الكد والسعاية لنص قانوني؛ فسيكون تقنينا لرأى دينى يختلف عن (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ)، كذلك فسبب الاستحقاق للمطلقة أو الأرملة بواقعنا الحالى مردود ومهدور بتوثيق سينمائى، ليجعل النص حالات كثيرة جدا لمطلقات تثرى بنصف كد وسعاية الزوج بلا سبب، كالقاعدة الجديدة (لمساهمتها بتحسين بيئة المنزل وتربية الأبناء على الوجه الأكمل!) فمطاطية وهلامية إثبات السبب، بل ومساهمة المطلقة أحيانا كثيرة بتخويخ المنزل وعداء الأبناء، ستجعل الزوج يتفنن لتهريب ثروته، ومرافقة النساء، والاستعانة بقهوة شهود الزور لإفساد التطليق.. إلخ. ليتحول قانون الكد والسعاية للكبد والرحاية! (ولنا عبرة بعدم دستورية المادة١٨ مكرر بخصوص مسكن حضانة الزوجية).
تقنيننا لفتوى وضعية باستحقاق طرف لنصف الثروة بلا سند مؤكد ولسبب ضعيف، يقابله تجريم تونس لتعدد الزوجات خلافا لحق سماوى!
لا خلاف حول ثراء التراث الإسلامى، وعبقرية الخلفاء، وموضوعية إمامنا الأكبر، غير أن ترقية الفتوى لقانون، بدولة لا مدنية ولا دينية، سيجعل المستقبل دوما مصبوغا بقداسة التاريخ .. الذى لا يتكرر!
وبمناسبة الإحياء، ألا يكون من العدل أيضا إحياء أخطر فتاوى الفاروق بوقف حد السرقة بعام الرمادة؟
* محامى وكاتب مصرى