إطار المسؤولية الفنية التقصيرية لبارتولدى (3)

إطار المسؤولية الفنية التقصيرية لبارتولدى (3)
محمد بكري

محمد بكري

6:51 ص, الأربعاء, 1 مارس 23

من أساسيات التفاوض وإدارة المنازعات (لا توقد نارا لا يمكنك إطفاءها)، و(من يضع الإطار يتحكم فى النتيجة)، و(تفاوض بلا غاية وإستراتيجية، صيدٌ بلا استعداد)، و(الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبادُل الأيام والذى يُريد البقاء على أفكاره العتيقة كمن يُريد محاربة رشاش بِسيف عنترة بن شداد). استفزت فكريا وجهة نظرى فى أزمة تمثال شامبليون جبهتين! الفنانين التشكيليين للمساس بحرية التعبير والإبداع، والقانونيين لمحاولة إثباتى للمسؤولية الفنية التقصيرية للفنان التشكيلى عن خطئه الشخصى فى إبداع عمله الفني! أما الأول فلأسس القواعد العالمية لحرية الإبداع والاختلاف الثقافي، والثانى للفراغ التشريعى الذى لا يغطى هذه المسؤولية.

وعليه كان لزاما لرؤيتى احترام رأى الجبهتين، بعرض الإطار الفنى والقانونى لإشكالية المسؤولية الفنية التقصيرية للنحات أوجست بارتولدى عن تمثاله شامبليون يدعس بحذائه رأس الملك المصري، تجنبا لتحول الأزمة لجدلية تُفرّغ القضية من محتواها الفكرى والوطني، بالتصدى لخطأ فنى عمدى مباشر مُدلل عليه، أمام أفكار تقليدية عتيقة لا تستوعب تغير الزمن والظروف والوعى الجمعي، وتتحسس من عواصف التغيير بثوابت، تُعمى موافقتها بصيرتنا الفكرية عن أصول الحق وقواعد الفن والقانون.

لذلك حرصت على تأطير وجهة نظرى بقواعد حرية الإبداع، والممارسة الفنية، والتأصيل القانونى بمنتهى الحيادية، قبل تطبيقها على أزمة تمثال شامبليون، وبالتالى فسيكون مُثمرا استحضار القارئ الموضوعى بمخيلته صورة تمثال بارتولدي، وهو يقرأ القواعد التالية، (الواردة بين قوسين نقلا عن متخصصين)، ليراقب بنفسه فكرة بارتولدى من نحت تمثاله ومدى مراعاته لقواعد التشكيل لإيصال رسالته المستهدفة منه! كفنان يحرص على ابتكار إبداعه الشخصى للتعبير عن أفكاره ومشاعره!

عن مفهوم حرية الابداع؛ (حسن العطار/ عندما نتكلم عن حرية الإبداع، يجب التأكيد على مصطلح الحرية المسؤولة، وإن كانت تمثل قيدا من قيود الحرية، إلا أنها تنبع من الداخل ولا تفرض من الخارج بأدوات القمع الخارجي، وبشرط ألا تتعارض حرية المبدع مع قيم وأسس المجتمع، وإلا تحولت إلى جنون وفوضي).

(د. أسامة أبو طالب/المبدع الحقيقى يفهم الحرية فهما يحول بينه وبين التحول للحظات من الجنون والفوضى، ولا يذكر لنا التاريخ فنانين كان لهم مطلق الحرية، فالإبداع فى أشد الحالات الفنية المتطرفة مقيد بقوانين التلقى فى المجتمع).

(نجوى أدريوش – الإبداع الفنى بين الحرية وضرورة التنظيم/ ينبنى الإبداع على الحرية، لذلك فإن مصدره الإرادة والذوق الإنسانيان، لكن الحرية يمكن أن ينتج عنها سلوك ضار بالغير أو بالجماعة، وهنا لابد أن تتدخل قواعد أجنبية عن المبدع الذى ارتكب هذا السلوك؛ تلك هى قواعد القانون التى هى إحدى معالم التحضر الإنساني، باعتبارها مصدرا احتياطيا لضمان التعايش السلمى بين أفراد المجتمع ومؤسساته، بتعويض المضرور ضد مرتكب الضرر سواء كان بحسن نية أو بسوئها.

ومعنى ذلك أن تدخل القانون فى الإبداع الفنى هو تدخل استثنائي، فى حالتين: الحفاظ على عملية الإبداع من جهة، وحماية الأغيار مما قد ينتج عن عملية الإبداع من أضرار مادية، سواء كان الأغيار أفرادا أو مؤسسات، يحميهم من كل سلوك ضار قد يحدث بمناسبة العملية الإبداعية، لأن الإبداع سلوك بشرى قد يصيب وقد يخطئ، وقد ينفع الغير وقد يسيء إليهم، ولكن القانون لا يمنع إلا السلوك المادى الضار بالغير، إذ لا شأن له بالنوايا وما قد يستنتج من الفعل الإبداعى على سبيل التخمين، لذلك يعاقب على السب، وهو كل قول أو فعل غايته وصف الغير بوصف قبيح يشينه ويمس كرامته، وهكذا كل فعل يمارس بمناسبة العملية الإبداعية، وينتج عنه ضرر بالغير، لذلك فمبدأ المطالبة القانونية ضد أى عمل إبداعى أن يثبت المتضرر أمورا ثلاثة: صدور الفعل الضار، وحدوث ضرر، وعلاقة سببية بينهما).

(الفنان الموهوب يستطيع أن يعبر عن كل الموضوعات فى إطار فنى جميل، دون استفزاز لمشاعر الأغلبية الساحقة، أو طعنها فى أخص مكنوناتها العقائدية والنفسية بحجة حرية التعبير أو الإبداع، فالفن الحقيقى الجيد لا يستفز الآخرين ولا يطعنهم، ولكنه يقنعهم ويستقطبهم بمنطق الفن والإيحاء. إن الفن الانتقامى أو الثأرى أو الدعائى لا يصل للقلوب والعقول، ويكون رد الفعل بالنسبة له واضحا جليا حيث يرفضه المتلقون).

كان ما سبق الإطار العام لحدود حرية الإبداع بألا يضر بالغير، وبالتالى فلتعيين وإثبات خطأ العمل المُبدع ومسؤولية الفنان عنه، يلزم رصد العلاقة بين فكر الفنان ومعايير العمل الفنى المترجم له، وهنا نجد ثابتا أنه (تتبدل طبيعة الفنان والفن مع مرور الوقت والزمن، فيمكن الحكم على الفنون التشكيلية وتقديرها من خلال معانيها ومفاهيمها، والرسائل التى ترسلها غالبًا ما يكون لها عدد لا يحصى من المعاني، ويمكن أن تعنى أشياء مختلفة لأناس مختلفين، حيث يتم تفسيرها من قبل الخبراء الذين يأخذون بالاعتبار موضوعها ووسيطها وشكلها وسياقها، لذلك فهناك مجموعة من القواعد الواجب مراعاة تحقيقها فى التصميم وصولا للجماليات الفطرية التى تدركها عين المتلقي، كالإيقاع، والتماثل، والتدرج بين كبر الأحجام أو الأشكال أو صغرها داخل العمل الفني، كذلك الصراع والسيادة الممثل بالتكوين أو البعد الدرامى بالعمل الفني، فيكون العنصر السائد هو الذى يختصه الفنان بدور البطولة لتحقيق تميزه بمجموعة من عناصر التكوين ومنها حجم العنصر فى الفراغ).

لذلك (يحتل الفن بدول العالم المتقدم مرتبة هامة بالحياة اليومية، مُحققاً ما تخططه تلك الدول من الأهداف التربوية أو الأخلاقية أو الأمنية وحتى الأهداف السياسية، وبالتالى فهو إحدى أهم الوسائل المُرقّية لفكر المتلقى والمتذوق، فيساعد بترسيخ الهوية الوطنية والقيم الأخلاقية، وتحقيق التوازن النفسى لدى الإنسان فيقرب وجهات النظر بين المواطنين وبين شعوب العالم المختلفة، وتبادل التراث الاجتماعي، كما يساعد بخفض السلوك العدوانى لدى الأفراد والتنفيس الانفعالى والتلقائي، حيث يهدف الفنان من وراء أعماله الفنية التعبير عن ذاته ومشاعره الداخلية تجاه أخيه الإنسان بكل ما تعنى العلاقات الإنسانية من فكر وعاطفة وأحاسيس).

إن قراءة ما سبق بحيادية ستنير اكتشافنا لحقيقة تمثال شامبليون، كعمل إبداعى ضار مستمر، تلاعب فيه بارتولدى بقواعد التشكيل، ليتجاوز أسس حرية الإبداع وعلاقة الفن والفنان بالمجتمع وحقوق الإنسان، لإخفاء انتقامه من الخديوى إسماعيل، تحت إعجابه بشامبليون، وتصويره بوضعية سيادية على رأس رمز حضارة وشعب مصر!

الخلاصة قواعد التشكيل وأسس علاقة الفنان بالمجتمع، أدلة تحرى وإثبات الحرية المسؤولة للإبداع الخاطئ، ومحاسبة المُبدع المنحرف، والمقال القادم إثبات المسؤولية الفنية التقصيرية على بارتولدى!

والله المستعان على نار تُنير لا تحرق!

* محامى وكاتب مصرى

[email protected]