إسماعيل (الجزء 3-)

إسماعيل (الجزء 3-)
طارق عثمان

طارق عثمان

7:02 ص, الأحد, 3 يوليو 22

الرأى القائل بنجاح مشروعه

سهل الآن بعد مائة وخمسين سنة قول إن مشروع إسماعيل باشا (خديوى مصر الأشهر) بتحويل مصر إلى قطعة من أوروبا قد فشل. وسهل تبسيط فكر الرجل وتخيُّل أنه كان محدود الفهم لواقع مصر، وأن تصوره لمعنى أن تصبح مصر قطعة من أوروبا يجعل فكره أقرب إلى شطحات الخيال، منه إلى العقلانية.

لكن هذا غير صحيح؛ لأن إسماعيل فسّر فكرة أن تصبح مصر قطعة من أوروبا بشكل أعمق كثيرًا مما يتصور كثيرون.

إسماعيل غيَّر من شكل مصر. فى عهده أخذت القاهرة والإسكندرية شكلهما الأوروبي، وتحولت أجزاء من المدينتين إلى- بالفعل- قطع من أوروبا.

التحول فى المدينتين الأكبر فى مصر جعل كثيرين من الوجهاء فى مدن الدلتا والصعيد يحاولون إحداث تغيرات مماثلة فى مدنهم. لذلك حدثت نقلات معمارية فى مدن مثل طنطا وأسيوط فى العقود القليلة التى تَلَت حكم إسماعيل فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

التغير العمرانى حمل أكثر من مجرد شكل المعمار. تغيُّر شكل قلب المدينة يُغير من أسلوب الحياة فيها. وهذا أول ما أراده إسماعيل، وقد حدث هذا فى القاهرة، وبشكل أكبر وأسرع مما تصوَّر كثيرون (وهذا واضح فى مذكرات عدد ممن عمِلوا مع إسماعيل).

التغير المعمارى أحدث نقلات كبرى فى الاقتصاد. ضُخت كميات مَهولة من الأموال فى البنية التحتية. جاءت شركات من أماكن مختلفة فى أوروبا للعمل فى مشروعات التطوير والتغيير. ظهرت رءوس أموال مصرية جديدة رأت فرصًا عملاقة فيما يقوم به إسماعيل، وحاولت أن تجد لنفسها موقعًا لتستغل التغيرات. وبالفعل كانت تلك اللحظة الأهم فى التاريخ المصرى الحديث.

من ناحية تغير شكل الثروة فى مصر- أولًا من ناحية دخول صناعات غير الزراعة كمصادر للثروة، وثانيًا من ناحية امتلاك مصريين، وليس أجانب، مواقع بدأ يكون لها أهمية فى الاقتصاد المصري.

تغيرات إسماعيل أحدثت نقلة غير مسبوقة، لقرون، فى تكوين المجتمع المصري.

الفرص جذبت أول موجات الهجرة ذات الوزن إلى مصر، بدايةً من الشام، ثم فى العقود القليلة التى تَلَت حكم إسماعيل، من جنوب أوروبا- وقد كانت دول فى ذلك الجنوب تمر فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بفترات حالكة اقتصاديًّا دَعَت العديد من أفضل عقولها إلى الخروج بحثًا عن حياة وليس فقط عن فرص.

نتيجة للتغيرات الاقتصادية والهجرات، بدأ المجتمع المصرى يأخذ أشكالًا جديدة- تكونت جاليات شامية وأوروبية فى عدد من مدن مصر. ظهرت أشكال من الثقافة والفن لم يعرفها المجتمع المصرى من قبل. وربما العامل الأهم: حدث ارتباط بين التطورات التى تحدث فى أوروبا وبين مصر- بمعنى أن المجتمع المصرى أصبح مواكبًا لما يحدث فى أوروبا، وفى أغلب المجالات، قادرًا على استيراد وفهم واستيعاب تلك التطورات.

لذلك ظهرت فى مصر صناعات (مثل تطوير الزيوت والأقطان) ومراكز تجارة (بورصات وشركات رائدة فى مجالات مختلفة) ومراكز فنون (أوبرا ومسارح مختلفة، ثم بعد ذلك بدايات السينما) بعد سنوات قليلة من ظهور تلك الصناعات والتجارات والفنون فى أكبر العواصم الأوروبية.

كل ذلك أحدث ارتباطًا فكريًّا بين الشريحة الأولى فى المجتمع المصرى وبين أوروبا. الارتباط لم يعن تبعية فكرية. على العكس، نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين شهدا أهم النظرات النقدية من داخل مصر لأوروبا والغرب بشكل عام. ولم يكن ذلك غريبًا- لأن القادر على الفهم والاستيعاب والعارف بدخائل الأمور هو القادر على تحليلها ونقدها بمعرفة وبثقة.

لذلك كان الارتباط الفكرى بين الشريحة الأولى فى مصر وبين أوروبا طريقًا مفتوحًا لنقل أفكار وفرص، لكن بذكاء.

الأهم أن استيعاب المجتمع المصري- ببطء وعلى مدى عقود- للتطورات فى أوروبا- جعل طبقات مختلفة فى مصر- من المصريين وليس المهاجرين- ترى وتقدِّر الارتباط الفكرى مع أوروبا. صحيح أن هناك من رفضوا هذا الارتباط- وقد استمر هذا الرفض وتطور إلى أشكال حادّة فيما بعد. لكن الظاهر- بوضوح- أن أشكال وفوائد التطور الذى حدث فى مصر نتيجة مشروع إسماعيل- أقنعت كثيرين (من طبقات مختلفة) بضرورة إطالة النظر- وكان أن بدأت التغيرات الاجتماعية التى حدثت على قمة المجتمع المصرى فى نهايات القرن التاسع عشر تجد طريقها إلى طبقات أخرى فى بدايات القرن العشرين.

تلك التغيرات- فى دخول التعليم غير الديني، فى معاملة الفتيات والنساء، فى أشكال الأكل والمظهر والملبس والبيوت، وفى التعاملات الاجتماعية- نقلت الكثير والكثير من الحياة الأوروبية إلى وسط المجتمع المصري.

إسماعيل لم يكن واهمًا عندما بدأ تغيراته فى قلب القاهرة والإسكندرية، ولم يكن سارحًا فى دروب خيالية عندما تصور أنه يمكن نقل أشياء من أوروبا إلى مصر- أشياء تُحدِث نقلات نوعية كبرى فى شكل وكيان المجتمع المصري- لأنه، ببساطة، تلك التغيرات حدثت واستمرت. لكن السؤال التالي- موضوع الجزء القادم من هذه السلسلة حول أسرة محمد علي- هو: وماذا بعد؟ هل كان لتلك النقلات والتغيرات فى الكيان تبعات خطيرة على البلد، تبعات جعلت من مشروع إسماعيل فشلًا تاريخيًّا؟

* كاتب مصرى مقيم فى لندن