أنها السياسة يا حبيبى!

أنها السياسة يا حبيبى!
حازم شريف

حازم شريف

11:57 ص, الأحد, 19 ديسمبر 04

يحاول الحزب وحكومته خلال الفترة الماضية إقناعنا، بأن الأولوية في المرحلة الحالية، هي للاصلاح الاقتصادي، وأن علينا و عليهم، إرجاء هذا الأخر المراوغ المسمى بالإصلاح السياسي، إلى مرحلة لاحقة، في نقطة زمنية غير محددة.

دعك أنهم لا يطرحون جدولا زمنيا لوضع الشق السياسى موضع البحث والتعريف والتنفيذ، ولا تتوقف كثيرا أنهم لا يخبرونك عن مبررات أو أسباب هذا التأجيل، ولا تشغل بالك من الأساس باجبارهم لك على ضرورة المفاضلة والاختيار بين ما هو اصلاح سياسي وما هو إصلاح اقتصادي، وكأن من طبائع الآمور أنهما نقيضين، لا يلتقيان مع أنهم -من وجهة نظرك ونظري- وجهين لعملة واحدة أو في تعبير أخر -لمن يعشق الانشاء والبلاغة- عقل وقلب لجسد واحد لا ينفصمان، وفي جميع الأحوال، وحتى ولو سلمت لهم بكل هذا، فأنه لن يحق لك أن تتساءل في براءة، لماذا يكون من حقكم أنتم فرض جدول الأعمال على النحو التالي: الاقتصادي أولا وثانيا وثالثا .. ثم السياسي؟!.


تستطيع أن تتغاضى -على مضض- عن كل ذلك، وتمضى إلى حال سبيلك مؤثرا السلامة، قانعا بالخروج من تلك المهاترات -مهاتراتك أنت بالطبع- بما تبقى لك من قواك العقلية، إلا أنهم لسوء الحظ لا يتركونك تفعل أبدا، وكأنهم يقولون لك بعبارة ثانية، -لمن يفضل الأمثلة الشعبية- «دخول الحمام مش زى خروجه»!.

ذلك أنهم في طريقهم لاقناعك طول الوقت بجدول الأولويات المفروض، ينتابهم ما يشبه الهوس بالاقتصاد أو بتعبير أخر -لمن هو مولع بعلم النفس- بالاقتصاد الهستيري، وهي حالة مرضية، ينتاب صاحبها هلاوس، تجعله يصور أو يتخيل الاقتصاد وكأنه وحده – ووحده فقط-، المحرك لجميع الأفعال ودرود الأفعال، دون الوضع في الاعتبار أي عوامل أخرى، وهكذا يصبح الانسان والعلاقات والدول كائنات اقتصادية، وليست سياسية واجتماعية علاوة على ذلك .


فطرح شركة للبيع على سبيل المثال، يتحول فى مجمل تصريحات الوزراء إلى موضوع اقتصادي محض، يحدثونك عن التقييم والأصول والقيمة العادلة والودائع والعوائد وتوزيعات الأرباح، وكأن المشكلة تكمن في السعر فقط، وليس بالأساس في تعارض وجهات النظر والمصالح، بين من يعتقدون في النظام الرأسمالى وتلتقى مصالحهم معه، ومن يختصمونه وتصطدم به مصالحهم.


بل وصل الأمر إلى ذورته، مع توصيف الحكومة لاتفاقية المناطق الحرة المؤهلة «الكويز» -والتي وقعت فى القاهرة الأسبوع الماضي- على أنها مجرد اتفاق تجاري، وجاءات استجابة لمبادرة القطاع الخاص، وكأن هذا القطاع يتحرك بمفرده، دون الحصول على الضوء الأخضر من الحكومة، وكأن استجابة الحكومة -في حالة التسليم بفكرة التحرك المنفرد-، ليست فعلا سياسياً، وكأن الأتفاق لم يوقعه ممثلون رسميون لدول ذات سيادة، في مصافحة ثلاثية، أزعم أنها لا تقل فى تداعياتها عن نظيراتها، التي شهدتها المنطقة على مدار الخمسة و عشرين سنة الأخيرة، بداية من مصافحة السادات وبيجين وكارتر، ومرورا بعرفات وكلينتون ورابين، والمصافحة الثلاثية للعاهل الأردنى الراحل مع توقيعه اتفاقية السلام الأردنية فى وادى غربة.


وكأنه لا يترتب على هذا الفعل نتائج وثمنا سياسيا، يستوجب حشد القوى المستفيدة منه، لضمان استقرار الأوضاع ، وتحقيق النتائج الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المرجوة منه.


وبغض النظر عن قدرتك على الاحتفاظ ببعض العقل في ظل هذه الهستيريا من عدمه، فأنه ينجم عنها -وهو الأخطر- فراغا سياساً، إن لم يكن فضاء سياسياً، بامكان أى تيار أو قوى او تنظيم أن يملئه، شرط أن يمتلك القدرة على الحشد ومخاطبة الجماهير، فتكون المحصلة ضياع السياسة والاقتصاد معا، فلا جدوى من وراء إصلاح اقتصادي، لا يرتكز على قوى سياسة واجتماعية تدعمه وتؤيده.


هذه القوى لا يمكن فقط اقناعها أو حشدها بتصريحات عن منافع اقتصادية في علم الغيب، بحكم خبرة الأفراد السابقة بمصداقية وعود الحكومة، وانما لابد أن يتوافر المناخ المناسب -الاصلاح السياسي-، لقيام تنظيمات سياسية، تضرب بجذورها في أرض الواقع، لتوفير الدعم المطلوب، لكافة الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية .. إلى أخره.


وبديهى في ظل حالة تلبيس الاقتصاد للسياسة، أن يهمش ويغيب الفعل السياسي، حتى للكيانات التي استبشرنا بتأسيسها خيرا كالمجلس القومي لحقوق الأنسان، الذي ظللنا نبحث مع متابعتنا لأزمة الأخوة الاقباط الأخيرة عن دورا له، يتعلق بالدفاع عن حق المواطن-أيا كانت ملته أودينه- في حرية الاعتقاد، دون جدوى، إلا أنه فيما يبدو، و في إطار حالة الهوس السابقة، مهموما فقط، بالدفاع عن حقوق الموطن الاقتصادية، كحقه في العمل والمسكن والملبس!.


ومن ثم أجد نفسي، بما تبقى لى من عقل منجذبا إلى الوراء، وتحديدا إلى شعار الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون، الذي رفعه أثناء حملة ترشحه الناجحة فى مواجهة الحزب الجمهوري، وهو : أنه الاقتصاد يا غبى!،
ولأننا في مكان غير المكان، ولأن الاصلاح السياسي لم يحن دوره بعد، فأنني أفضل توخى الحذر، وأنا أرفع شعاري بدوري، مخاطبا حزب الحكومة، وزيادة في الحيطة، سأسمح لنفس بالتجاوز- مستخدما الخطاب السوقى السائد-: أنها السياسة يا عمري يا روحي يا حبيبي .. يا وطني يا وطنطن!.