فهل المقصود؛ بأن لمصر الجديدة أضاحى أو قرابين لتحديثها؟ أم أن هناك أنواع أضاحى جديدة بمصر؟
وما هى القوى التى نعتقد بأنها تتدخل فى حياتنا- خوفا أو حبا- لنقدم لها قرابين من لحمنا وكرامتنا؟ شهدت مصر فى الآونة الأخير عددا من الأضاحى البشرية، لم يتورع فيها الجناة عن (ذبح) ضحاياهم على رؤوس الأشهاد، فى مجتمع تناضل قيادته لإعادته إلى خط التنمية والترقية، سواء ببنية تحتية مطورة، أو أمن يكافح للاستتباب، أو بطون تتوقى مسغبة. ومع ذلك فهناك من القوى المتغلغلة فى حياتنا وتتخلل وعينا، فيترجمها سلوكنا، وتتبناها أفكارنا، وتتخفى فى معتقداتنا.. وأقصد بها قوى الإعلام والدين والتعليم، وما تمثله من مثلث تشكيل الوعى الجمعى لأى مجتمع.
فإذا كان هذا المجتمع لدولة تكافح للبقاء باستراتيجية النمو والأمن والقيادة، فإن تأثير هذه القوى يكون أكبر وأعمق (سلبا أو إيجابا)، واستهدافها أخطر وأغلظ! والنتيجة؛ أن تتحول هذه القوى إلى مؤثرات قاصمة يُقدم لها القرابين بمعانٍ وأشكال مختلفة!
يزخر الإنترنت والأرشيفات الصحفية بزخم من الجرائم (الجديدة)، التى جُرح فيها وازع العقاب والردع والخشية! ولا مجال هنا لتعداد الجرائم، أو بشاعتها، أو اجتراحها للأعراف، أو القوانين، أو الأخلاق. فالبحث والوصول للمعلومات مكفول للكافة، ولكن السؤال عن شيوع المبدأ بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وأثره على تطور المجتمع والاقتصاد المصرى! فما قيمة تنمية عمرانية وبرامج إصلاح اقتصادى، ومحاولات تشجيع الاستثمار، لمجتمع بدأت شرائحه المختلفة تطبق القانون بيدها، وترى فى القوة أداة لأخذ حقها أو تطبيق شريعتها، وتجد من يدافع عنها أو يجمع لها الدية، وتبرر لها السوشيال ميديا، ويُتناحر للدفاع عنها؟
لدينا نماذج الطالب والزوج والقاضى والأم والزوجة والصديق والابن المدلل. فئات ثرية ومتوسطة وفقيرة وتحت خط الفقر، ولكلٍ مبرره أو وازع قربانه! السؤال لا يلقى باللوم على مكونات مثلث الوعى الجمعى مباشرة، ولكن الحقيقة موجهة لإفرازات هذه المكونات الناخرة فى متن الشخصية المصرية، على مدار 60 سنة وحان وقت قطافها!
عندما كتبت مقال (فن هدم الدول- 20/ 12/ 2021) بأشكال مختلفة احترفتها حروب الجيل الرابع، من تذويب القوة الناعمة، شرعنة الفساد والرشوة، ترقية الطابور الخامس داخليا وخارجيا، تهشيش الفواصل بين الحرب والسياسة، والعسكريين والمدنيين، لإنتاج ضباب يخفى فنون الهدم، ويخلق لدى الشعب حالة عشوائية وذبول وحيرة، تجّرف استقرار وتنمية الدولة، بتصويرها فاشلة وفاسدة ومتحزبة، لاستحداث واقع جديد يراعى و/أو يحقق مصالح الأعدقاء (أعداء/أصدقاء)! وقتها كنت أشير من بعيد إلى تصاعد وتيرة النخر فى وعينا بمفاهيم الصواب والخطأ، الحلال والحرام، العلم والشطارة، الدين والعلمانية، العقل والنقل، الحرية والتحرر، الفن والاستنطاع، الثقافة وادعائها، الحق والقوة، القضاء والعدل.
هذا النخر الهادئ ينحت يوميا فى قوى وعينا، من خلال الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعى والتفتت التعليمى والمنهجية الدينية لرجال الدين، لدرجة أن أصبح كل منهم قوة مؤثرة فى حياتنا، تُقدم لها قرابين المال، والنفس، والفكر، والحرية. ومع تخطينا حد الـ100 مليون نسمة، أصبحت التركة البشرية أوطأ والاختبار الصباحى أثقل بين سد رمقها، وبين كفالة حريتها! بين التحليق على مخالفاتها، وبين تشغيل أفرادها، وبين تأمين مواقعها!
تميزت الأضاحى الجديدة لمصر، بتفسخ كامل فى وعيها، بتأليه وفساد الإعلام، ووجود القانون، وجوهر الدين، وقدرة العقاب! ولاستيعاب خطورة تأثير قوة قوى القرابين، تخيلوا مثلا تأثير قبول الدية على حكم بالشنق! ستعرف قاعدة (اللى تعرف ديته اقتله!) طريقها لسيف المال والمركز، ليطيحا برقاب الباقى! أو الانتحار الاجتماعى والاقتصادى للعديدين، مقابل غلاء المعيشة وتضارب القوانين والقرارات الاقتصادية، أو تبرير السرقة الفنية والفكرية للتضحية بالإبداع الأصيل المُكلف، أو التضحية بالعدل باسم القضاء، أو قربان المتاجرة بالسمعة والخصوصية والأخلاق لركوب التريند وزيادة المتابعين!
فهل كل ذلك يعتبر مبررا لأضاحى جديدة للوصول لمصر الجديدة، ودربها الذى لن تتوانى عن استكماله، لتسلم رايته مزهرة لمن هم جديرون بها؟ مصر الجديدة تجاوزت الفكرة والحلم لتصل إلى بذرة التحقيق بإرادة صارمة، والأضاحى الجديدة لمصر، هى أحد فيروساتها الداخلية التى تقض مرقدها، وتحتاج منظومة لإفاقتها لا تقل عن تأمينها أو استكمال بنائها. الخطورة اعتبار قوى القربان مجرد فيروس، لا ورما سرطانيا يحتاج استئصال شأفته!
أدمنت مصر طرق علاج مبتسرة على مر تاريخها، وأغلب قرارات الجراحة نُفذت بغير أطباء، ومشاركة مصر فى النظام العالمى الجديد، تحتم بروتوكولات علاج مبتكرة لأورامها تناسب خطرها! فمصر الجديدة كبيرة، قوية، غنية، صارمة، مقدر لها الريادة، ولا ولن يترك الآخر هذه الصفات تزهر وتنمو! وسيحرص على تغذية سرطاناتها بمزيد من الإعلام المُجند والتعليم المُجهل والفتاوى المُلغزة والتشدد الممنهج.. لمزيد من القرابين والأضاحى.
يُزرع الاقتصاد ويستظل رأس المال ويزهر الاستثمار، فى حديقة الشفافية والتنظيم والاستقرار والاستمرار، ليثمروا تنوعا بمصادر الدخل وأنواع الثروة، نمو الناتج القومى، تحجيم مستوى الفقر، انخفاض معدل الجريمة، إعادة توظيف وتسكين الكثافة السكانية، تعمير مناطق جديدة، تحفيز ثقافات متنورة. وكل ذلك مازال ممكنا بمصر الجديدة، فقط عندما نطلق قوة جديدة تحترف إرادة تحقيق الشفاء.. لا فن تبرير القربان!
* محامى وكاتب مصرى