(3) التدوين
تدوين المعارف البشرية كلها راجع إلى اختراع طريقة- هى التدوين- لإثبات المعانى بالحروف، وإثبات الأعداد بالأرقام.
ومما يقل فيه الخلاف بين المؤرخين والمنقبين، فيما يُبدى الأستاذ العقاد أن حروف الكتابة العربية والكتابة الإفرنجية ترجع إلى مصدر واحد، وأن الأوروبيين اعتمدوا على الكنعانيين أو الإرميين فى اقتباس حروفهم الأولى، وهى مشابهة فى لفظها ورسمها لبعض الحروف السامية، ولا سيما الألف والباء والجيم والدال.
ومعظم الباحثين فيما يقول- يرجحون أن الحروف الكنعانية أو الإرمية تدرجت من حروف مصرية مأخوذة عن الصور الهيروغليفية القديمة. وقد عُثر سنة 1906 فى سيناء على نموذج وسط بين الصور القديمة والحروف الأبجدية كما نشرها الكنعانيون والإرميون، ويقدّر عمر هذه اللوحة بثلاثة آلف وخمسمائة سنة، وقد كان الإرميون يعيشون فى ذلك العهد فى شبة جزيرة سيناء.
وقد ثبت أن أبناء الجزيرة العربية نقلوا هذا الاختراع النفيس إلى الأقطار الآسيوية وإلى الأقطار الأوروبية. وأن الهنود أخذوا حروفهم من اليمن، كما أخذ الإغريق حروفهم من عرب الشمال فى فلسطين.
أما طريقة الترقيم الحسابية، فهى أحدث كثيرًا من طريقة الكتابة بالحروف، ولكن تقويم الحروف بالقيم الحسابية قديم فى الشعوب السامية، ولما اقتبسوا الأرقام الهندية بعد الإسلام صقلوها وأضافوا إليها علامة الصفر والطريقة العشرية، ومن ثم عُرفت هذه الأرقام عند الأوروبيين باسم الأرقام العربية، ولا يزال اسم الصفر عندهم Zero «زيرو» محرفًا عن اسمه فيها.
(4) صناعة السلم والحرب
يورد الأستاذ العقاد رأى «اسحق تايلور Issac Taylor»، أن الإغريق اقتبسوا نظام الأوزان وسك النقود عن البابليين عن طريق الإرميين فالليديين فى آسيا الصغرى، وكان للإرميين بطون فى العراق وأخرى فى سيناء وفلسطين، فكانوا ينشرون ما اقتبسوه من وادى النيل ووادى النهرين على السواء. وكان الإغريق على اتصال بهم فى الموانئ الشرقية من آسيا الصغرى إلى تخوم سيناء، فنقلوا عنهم وسائل الحضارة والتجارة قبل أن يهتدى إليها أبناء أوروبا بزمن طويل.
ومع أن الإغريق ملاحون قدماء، إلاَّ أنهم لم يسبقوا الكنعانيين إلى هذه الصناعة لأن هؤلاء عكفوا على نقل التجارة البحرية وأوشكوا أن يحتكروها فى شرق البحر الأبيض إلى ما بعد نشأة الإسكندرية، وأعانهم على إجادة الملاحة كثرة الأخشاب الصالحة فى أرض كنعان لبناء السفن.
وربما تعلم الإغريق صناعة السفن- فيما يقول- من الكنعانيين أومن البابليين، وقد يفيد هنا أن سفينة نوح أقدم سفينة ورد ذكرها فى التاريخ، وأنها بنيت فى بلاد قريبة مما بين العراق وفلسطين وقد وجدت آثار السفن الفينيقية القديمة فى أفريقيا الجنوبية.
فإذا كان تحقيق السبق عسيرًا اليوم، فإن الذى لا يعسر تحقيقه أن الكنعانيين- أو الفينيقيين فى مسمى الإغريق- توسعوا فى الملاحة وإقامة المستعمرات البحرية توسعًا لم يبلغه الإغريق فى الزمن القديم، وليس ببعيد وقد ثبت أن الإغريق قد اقتبسوا الموازين والنقود والكتابة وأرصاد النجوم وخصائص الأيام الفلكية عن الساميين أن يكونوا قد تلقوا عنهم دورسًا فى الملاحة والتجارة وبناء السفن وتوجيهها فى البحر على حسب الطوالع والنجوم.
● ● ●
والخلاصة أن الإغريق تتلمذوا فى صناعات السلم على أنه من سلالة الجزيرة العربية، وأنه على اعتبار أن الساميين من سلالة الجزيرة العربية فإن هذا يرجح أنه يعود إليهم الفضل فى استفادة الرومان من الفنون الحربية، ولا تزال معركة «كانى Cannae» التى هُزم فيها الرومانيون من القائد القرطاجى المشهور باسم هانيبال لا تزال محورًا للبحث والدراسة والمناقشة فى أحدث مدارس أوروبا العسكرية.
● ● ●
وخلاصة ما تقدم- فيما يقول الأستاذ العقاد، أن الأوروبيين أخذوا عن أبناء الجزيرة العربية فى مسائل العقيدة، وفى مسائل الحضارة والمعيشة اليومية، قبل أن تبلغ أوروبا المبلغ الذى بلغته بعد ذلك.
والمحقَّق أن المعارف الفلكية التى وصلت الأوروبيين وبنوا عليها عقائدهم فى الكواكب والأيام مصبوغة بالصبغة البابلية سواء فى الأسماء أو الصفات، وأن الكتابة قد وصلت إلى الأوروبيين والهنود من أقصى شمال وأقصى جنوب الجزيرة العربية، وأن الطابع السامى ظاهر على أول ما أقتبسه الأوروبيون من دروس الفلك والكتابة والحكمة الرواقية وبعض أسباب التجارة والملاحة والعمار.
رجائى عطية
Email: [email protected]
www.ragai2009.com