عن أثر أوروبا الحديثة فى النهضة العربية
الحكومة البرلمانية
لا شك أن الحكومة البرلمانية، كانت من آثار الاحتكاك بالحضارة الغربية، بيد أن الأستاذ العقاد يحرص على بيان أن الفكرة موفورة الأساس فى الحضارة الإسلامية، فقد حرم القرآن الحكيم الحكم المطلق، وأنكر سلطان الجبابرة، وحض على الشورى فقال للنبى عليه السلام: «وشاورهم فى الأمر» وقال فى المسلمين: «وأمرهم شورى بينهم»، وقرر المساواة فى العدل بين الجميع وأيًا ما تفاوتت الدرجات.
والمسلم يحس من قراءة القرآن إحساسًا «شوريا»، ويتعلم فريضة الشورى بالإيحاء وبالتلقين، فضلاً عما أمر به القرآن من وجوب المشاورة.
ولم يكن الاستخلاف فى الأرض بالإخضاع بل بالإقناع، ولم يَصِرْ الخليفة الموعود أهلاً لهذه الأمانة إلاَّ بالعلم الذى يعلمه ويبز فيه سواه.
وعلى ذلك فالأمر «بالحكم الدستورى» قديم فى الحياة العربية فيما يتغيا الأستاذ العقاد إيضاحه، وهو من ثم أصيل فى الدولة الإسلامية حتى وإن هجرته الدول فى عهود التحلل والهبوط، ولم ينقطع الأمل فى تعاقب الأجيال أن تكون الشورى «نظامًا» يأتمر به الحاكمون والمحكومون.
وحين بلغت هذه الأطوار تمامها، كانت الحومة الشورية أو الحكومة الدستورية نظامًا أوروبيًا يتلقاه الشرقيون عن الأوروبيين، وأصوله لديهم، ولا يتلقونه غريبًا يحتاج إلى إقناع ولا عقيدة جديدة تحتاج إلى تبشير .
* * *
نعم، عرفت القارة الأوروبية النظام البرلمانى على صورة من صوره الأولى قبل الميلاد بعدة قرون، فنشأ مجلس الشيوخ فى روما ونشأت المجالس التى تماثله فى أثينا واسبرطة وبعض الأقاليم الإغريقية.ونشأت بعدها مجالس أخرى أدنى إلى نظام المجالس التمثيلية وأقرب إلى الحكم الديمقراطى الذى تشترك فيه جميع الطبقات.
ولكنه كان هنا فى الشرق الإسلامى، نظامًا من النظم الخاصة مرجعيته تتمثل فيما سلف.فالحضارة العربية الإسلامية سبقت والأمر كذلك إلى مبدأ الحكومة الشورية فى مجال العقيدة والأخلاق، والغرب قد سبق الحضارة العربية بحكومة الشورى فى مجال النظم والسياسة التى تتمخض عنها حوادث التاريخ.
وهذا هو الذى يفسر سهولة انتقال الحكم الدستورى كما عرفه الغرب إلى الشرقين الأدنى والأوسط، فلولا أنه كان له أساس قائم فى عقائد الناس واعتراف من الحاكمين والمحكومين بمبادئه وأصوله، لما انتقل بهذه السهولة إلى الأمم الشرقية.
ويتفق الحاكم المطلق فى الشرق أو فى الغرب- على اباء أن يشاركه أحد فى أمره، وفى أنه لا يذعن لحكم الشورى بمطلق اختياره، بل ولا يقبله إلاَّ مكرهًا أو على مضض.ولكن الفرق كبير وعظيم بين حاكم يستطيع أن ينكر أساس الحكومة النيابية، وبين حاكم لا يستطيع إنكاره لأن مصدره دينى إلهى يمثل إنكاره خروجًا على أحكام الدين وعصيانًا لرب العالمين.
ولذلك كانت معارضة السلاطين والأمراء الشرقيين- فيما لاحظ الأستاذ العقاد للحكومة الدستورية- معارضة تقوم على أعذار وقتية ولا تنهض على أسس وأصول.
فكان سلطان الدولة العثمانية مثلاً- يسلّم بواجب الشورى ويسمى الرتبة الكبرى عنده رتبة «المشير»، ويخشى أن يصارح رعيته بأنه يتولى شئونها على سنة الاستبداد، ويختلق معاذير أو ذرائع وقتية لعدم تعميم الحكم النيابى تمحكًا فى وجود رعايا مخالفين
فى الجنس والدين واللغة، ويمالئون الدول الأوروبية ولا يخلصون من ثم فى خدمة الدولة العثمانية، ويشكلون خطرًا عليها إذا تسنموا مناصبها العليا وصارت لهم كلمة فى إدارة سياستها.
وكانت المناظرة بين روسيا وبريطانيا العظمى فى البلاد الإيرانية تحول فيما يستشهد الأستاذ العقاد دون استقرار الأمر وانتظام السعى فى توطيد الحكومة النيابية، لأنهما كانتا تبلغان أى روسيا وبريطانيا من بطانة الحكم المطلق ما لا تبلغانه فى حكومة نيابية تخضع لرقابة الشعب وتكشف له عن تصرفاتها.
وقد نزل المحتلون الإنجليز بمصر- فيما يقول- فى أواخر القرن التاسع عشر، وفى مصر حكومة نيابية تطورت بعد تجارب متوالية من عهد محمد على الكبير، فكان أن عَطَّلَها الإنجليز لأنهم لا يستطيعون الإشراف على الإدارة المصرية مع إشراف المجلس النيابى عليها.فلما اقترن طلب الدستور بطلب الاستقلال أصبحت الحكومة النيابية مرادفة للحكومة الوطنية فى برامج الأحزاب المصرية، وأصبح الحكم الأجنبى هو الحائل دون قيام الحكم النيابى الذى ينشده أحرار المصريين.
وعلى ذلك فإنه إذا كانت الحياة النيابية طبقًا للأوضاع الحديثة ثمرة أوروبية انتقلت إلى الشرق من حضارة الغرب، إلاَّ أنها جاءت إلى أرض ليست غريبة عنها، ففرضت طابعها على ما تلقته، وكان الفضل فى تهيؤ الشرق لقبول الثمرة الأوروبية راجع إلى عقيدة الحرية والشورى التى بثتها حضارة العرب بعد الظهور الإسلام.
Email: [email protected]