هل أصبحت الآمال رمادية، وهل للرماد آمال؟ السؤال يترجم تطور فن استعمار الدولة، ليصل فى صورته الحديثة للتفكيك الأخلاقى للمجتمع، بترميد مكونات الدولة (النظام السياسى، الشعب ووعيه الجمعى، الأرض ومواردها). حداثة الفن فى التحكم بعملية الحرق (أدوات ودرجة الحرق، نوع المحروق، ومدة الحرق)! عمليا فالرماد غير قابل لمعاودة الاشتعال منفردا، ولكن طبيعة مكونات الدولة ذاتها تجعل رمادها قابلا للاشتعال بشروط معينة (احتواء المكونات على رطوبة الوطنية، وإرادة الشعب/ خلطها بالفكر المستنير، ورؤية الحقيقة، والإيمان الوسطي/ تفاعل المكونات المرمدة مع عوامل التغيير وغريزة البقاء). لرؤية أبعاد هذا الفن الشيطانى يلزمنا معرفة أدواته لترميد مكونات الدولة من؛ تغيير القيم الثقافية كالعولمة بنشر ثقافات مختلفة تثمر تآكل القيم المحلية والتقليدية، بدعم محتوى إعلامى يروج لقيم مادية أو سلبية تضرب سلوك الأفراد/ خلق أزمات اقتصادية، تزاوج البطالة بالفقر فيَلِدا الفساد والاحتيال، ليفقد الشعب ثقته بالمؤسسات، ويبرر كسر الالتزام بالقيم الأخلاقية/ الإدارة بالضعفاء والملطوطين/ ضرب مفهوم ودور الأسرة كمصدر أخلاقى للنشء، والتلاعب بمفردات الدين توصلا لتآكل بطيء للعقيدة الدينية المقبولة/ استخدام وسائل التواصل الاجتماعى لترسيخ العزلة والتنمر الإلكترونى وتجريف التواصل المباشر، وبث المعلومات المضللة والشائعات، إعلاء التكسب المالى بلا خبرات والمتاجرة بالجسد والحياة الشخصية، فى استبدال فج للقيم بالمال/ دهورة التعليم بتشتيت سياساته، النيل من رموزه، المتاجرة بمعطياته، دحر التفكير النقدى لقبول القيم السلبية، تضخيم تكلفته، تسطيح المحتوى وتراجع التركيز على التعليم القيمى والأخلاقي/ نشر ثقافة الاستهلاك والرفاهية بدون مسبباتها/ تسطيح ثقافى وإعلام بوقى يهتم بالشكل دون المضمون، دراما سوداء باسم الواقعية/ تجريف الخبرات، وتهميش القدوة، وتلميع الطفيليات/ بروزة القوة والعنف المجتمعى فى الميديا كنتيجة طبيعية يلزم قبولها لمعايشة الشعب لكل ما سبق/ تدبير وترتيب الصراعات المسلحة والحروب المؤدية لتدهور القيم الإنسانية والأخلاقية لتبرير الفساد بزعم حب البقاء/ إفساد وتلويث الذوق السمعى والبصري/ تشجيع الكسب من السطحيات وتعويق الفكر البنائي/ تفتيت فكر الوطنية والولاء والبناء/ تدابير ومخططات لتغيير معايير الطبقات الاجتماعية لإشعال المنافسة بينها على حساب القيم الأخلاقية. تضافر وتفاعل أدوات وتدرج زمن مخطط حرق مكونات الدولة، يتشكل فى فقاعة حياتية خلابة صوتا وصورة وأداء، تلد شعورا عميقا باغتراب المواطن عن مجتمعه، فيفقد انتماءه له والتزامه بقيم تتآكل أمامه تدريجيا، فيصل تلقائيا لمرحلة الترمد أو يتحول تدريجيا لرماد مجتمعى ببطاقة رقم قومى، مُرطبة قليلا بوطنية منسية وإرادة عاجزة! لنصل لفهم سؤال هل للرماد آمال؟
صناعة التفكيك الأخلاقى للمجتمع – بغض النظر عن مستواه – تستغرق من ١٥ إلى ٢٠ سنة، هى مدة تعليم جيل واحد من الأطفال والشباب والطلاب، بحيث يمر ويشهد ويعايش هذا الجيل – بلا وعى حقيقى أو مُبصّرين – لأطوار حرق مجتمعه بالأدوات السابقة! فيصل لمرحلة تلون آماله بالرمادية فى رؤيته لنظامه السياسى، أسرته، دينه، تعليمه، أرضه، فرصته فى بلده، حلمه بالأموال، مناكبته لرفاق مترمدين، رغبته فى حياة طبيعية بدون دفع حقيقى لقيمتها! النتيجة آمال رمادية ورماد بلا آمال، فى مجتمع استُعْمر بلا طلقة واحدة، وأصبح مهيأً لاجتياح مدروس يتحول فيه الشعب لعبيد فكر موجه، يستهدف دولة بأكملها تعمل لحسابه ويستثمر بحرقها إستراتيجيا لخلق نوع جديد من الحلفاء والتابعين، يضمن فيه القوة البشرية والموارد الطبيعية ومساحات تنميته عن بُعد!
للأسف هذا مصير ترميد مكونات الدولة، عند صبغ آمالها فى البقاء والتنمية بالرمادى، فلا هى فى عز الأبيض ولا قتامة السواد! تفكيك أخلاقى مدروس يضمن استعمارا طويلا مأمونا! (فالأُسد المولودة فى الأسر تفقد طبيعتها وتجهل استطعام الحرية والقنص). السؤال الحقيقى، هل يمكن للمجتمع المترمد معاودة الاشتعال، فالتوهج ومقاومة تفكيكه الأخلاقي؟
لا يوجد كائن اسمه المجتمع يُصلح بعصا سحرية! ولكن هناك أفراد، ضباط وجنود، حاكم ومحكومون، مدير وموظفون، مخرج وممثلون، تعليم ومتعلمون. دحض التفكيك الأخلاقى للمجتمع حتما ينطلق من الفرد صعودا لأعلى! كيف؟ قم بتحليل أى محتوى بشكل نقدى، تحديد المصادر الموثوقة، توعية النفس والآخرين، ابتكار محتوى إيجابى ورفض السطحية، دوما اسأل نفسك ماذا أريد وما هدفى، قاوم السهولة والكسب السريع ولا تخف من صعوبات البناء، فكر كقائد لا جندى، ابتكر مناقشات حقيقية وجادة، تبنى أداء مقدم الحلول والباحث عنها، تقبل فشلك وحلله واخرج بدرس مستفاد تذكره حتى لا تكرره، ابنِ شبكات تدعمك بإيجابية، ابحث عن مرشدين وأصحاب خبرة، غيّر خططك طبقا للظروف وتقبل الصعوبة العامة بحلول فردية، قاوم ترمد الآخرين وفرضهم توريطك بأحاسيسهم بألوانك الخاصة، نقِّ حواسك بمراقبة مدخولاتها وأثرها على ذوقك ونفسيتك، رصّع تفكيرك وأفكارك ومشاهداتك بنماذج ناجحة وإيجابية، ارفض السطحية والتشتيت وتمييع القضايا العامة كالوطنية والولاء والانتماء، ارفض ثقافة “مفيش فايدة، وليس بالإمكان أحسن مما كان، والدور انتهي”، ابحث عن الوسطية بلا وصاية دينية، تعلم العطاء، شارك تجاربك مع الآخرين، اخلع عنك اللامبالاة والتهوين، اقرأ ثم اقرأ أكثر، شارك فى الانتخابات عن وعى، تواصل مع أسرتك واعرف تاريخها والناجحين فيها، اتخذ قدوة، فتش عمن يرشدك لإمكانياتك وصمم أحلاما تحققها بواقعية، انتمِ لكيان أو مؤسسة تدرجها مأمون، قدِّر قوة القيم والأخلاق، انحت لنفسك مكانة تستحقها بعرقك، عامل المال كوسيلة لا هدف أو قيمة، اسال نفسك كيف أستعيد حسى الوطنى وإرادتى للتغيير، تعلم التفكير الإيجابى، افهم معنى الزمن وتطور صورتك الذهنية عن نفسك خلاله، ارفض القبح والتسويد وتجريف من وما حولك، تعلم فن الصمت والمناقشة والاختلاف، اغبط الناجحين وكدّ لمعرفة سر نجاحهم، حجِّم إعجابك بالطفيلين والمستقوين وفَتِّش عن صور نجاح واقعية، افهم فشلك وارحم ضعفك لتجد حلولك باستكشاف مجالات ومناطق جديدة، تقوَّ بأصحاب المواهب والتجارب وقصص النجاح أو الفشل المستفاد منه، افهم إيجابية فكر التعاون وفريق العمل والتضامن، قاوم التوريط والانقياد والتقليد والتبعية.
عندما يحاول (الفرد) – كلٌ بسِنِّه وموقعه – تجريب ما تقدم لمدة ٥ سنوات فقط، يمكنا تصور (مجتمعا) يتعافى بوعى متدرج من تفكيكه الأخلاقي! وعندما يكون هذا الفرد قائدًا أو مدرسة أو مستشفى أو كلية أو فنانًا.. سيتمكن الرماد من معاودة الاشتعال ذاتيا، لتتوهج الدولة من جديد فى عصر ينتظره الظلام!
* محامى وكاتب مصرى
مصر تتمتع بإمكانيات تؤهلها لأن تصبح مركزًا إقليميًا للتكنولوجيا المالية