«‬بشارة‮»‬‭ ‬و«المنسى‮»‬

حازم شريف

11:41 م, السبت, 1 فبراير 20

حازم شريف

حازم شريف

11:41 م, السبت, 1 فبراير 20

منذ‭ ‬البداية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مخططًا‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬جمعة عادية‭..‬ كان‭ ‬قد‭ ‬وقع‭ ‬عليها‭ ‬اختيارى‭ ‬أخيرًا،‭ ‬كموعد‭ ‬لإجراء‭ ‬عملية‭ ‬بسيطة‭ ‬لتسليك‭ ‬وتر‭ ‬باليد‭ ‬اليمنى،‭ ‬مضى‭ ‬على‭ ‬متاعبه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬3‭ ‬سنوات،‭ ‬استنفدت‭ ‬خلالها‭ ‬كل‭ ‬وسائل‭ ‬تجنب‭ ‬التدخل‭ ‬الجراحى،‭ ‬من‭ ‬كورسات‭ ‬حقن‭ ‬كورتيزون‭ ‬متوالية،‭ ‬وشتى‭ ‬أصناف‭ ‬العلاج‭ ‬الطبيعى،‭ ‬وتكفل‭ ‬باستهلاك‭ ‬باقى‭ ‬المدة‭ ‬انشغالات‭ ‬متعددة‭ ‬ومتكررة،‭ ‬تتقاطع‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬لتشكل‭ ‬روتينًّا‭ ‬يوميًّا‭ ‬من‭ ‬الشغف،‭ ‬يصعب‭ ‬التملص‭ ‬منه،‭ ‬لإفساح‭ ‬حيز‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬لإجراءات‭ ‬متوالية‭ ‬لأزمة،‭ ‬كاختيار‭ ‬الطبيب،‭ ‬والمشفى،‭ ‬وعمل‭ ‬التحاليل‭ ‬اللازمة،‭ ‬وتخصيص‭ ‬يوم‭ ‬للتنفيذ،‭ ‬والاستعداد‭ ‬لتحمل‭ ‬قدر‭ ‬يسير‭ ‬من‭ ‬الألم‭.. ‬ لم‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬ذهنى‭ ‬بالتأكيد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الألم‭!‬

————————————————–

أراحنى‭ ‬نفسيًّا‭ ‬خبر‭ ‬تحديد‭ ‬الطبيب‭ ‬الساعة‭ ‬الثامنة‭ ‬مساء‭ ‬لإجراء‭ ‬العملية،‭ ‬فهو‭ ‬يقينى‭ ‬من‭ ‬شر‭ ‬الاستيقاظ‭ ‬مبكرًا‭ ‬فى‭ ‬يوم‭ ‬عطلتى‭ ‬الأسبوعية‭ ‬الوحيد،‭ ‬والهرولة‭ ‬إلى‭ ‬المشفى‭ ‬بعين‭ ‬منتفخة،‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬قسطها‭ ‬الكافى‭ ‬من‭ ‬النوم‭.‬
فى‭ ‬غضون‭ ‬الساعة‭ ‬الواحدة‭ ‬والنصف‭ ‬مساء،‭ ‬مارست‭ ‬طقس‭ ‬الإفاقة‭ ‬المتثائبة‭ ‬الأولى،‭ ‬تفحص‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعى‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول،‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬تداوله‭ ‬من‭ ‬أخبار‭.‬
وكالقافز‭ ‬من‭ ‬الدار‭ ‬إلى‭ ‬النار،‭ ‬اسودت‭ ‬الدنيا‭ ‬أمامى،‭ ‬لم‭ ‬أميز‭ ‬للحظة،‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬أقرأه‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬الفيسبوك‭ ‬وتويتر‭ ‬ورسائل‭ ‬الزملاء‭ ‬على‭ ‬الواتس‭ ‬آب‭ ‬حقيقيًّا،‭ ‬أم‭ ‬أننى‭ ‬بصدد‭ ‬هلاوس‭ ‬وكوابيس‭ ‬من‭ ‬يغفو‭ ‬بعد‭ ‬استيقاظ،‭ ‬بلا‭ ‬رادع‭ ‬من‭ ‬التزام‭ ‬قريب‭.‬
مصرع‭ ‬خالد‭ ‬بشارة‭ ‬وأحمد‭ ‬المنسى‭ ‬وزكية‭ ‬هداية‭ ‬فى‭ ‬حادثى‭ ‬سيارة‭ ‬منفصلين‭!‬

‏‭—————————————————‬

ساعات‭ ‬الصدمة‭ ‬وردود‭ ‬الأفعال‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعى،‭ ‬تحمل‭ ‬فى‭ ‬طياتها‭ ‬وبصفة‭ ‬خاصة‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬الحدث‭ ‬جللا‭ -‬وقد‭ ‬كان‭- ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬المتكررة‭.‬
تعليقات‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬التصديق،‭ ‬وأخرى‭ ‬تبادر‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬العزاء‭ ‬عن‭ ‬فقدان‭ ‬أشخاص‭ ‬ربما‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يجمعها‭ ‬بها‭ ‬سابق‭ ‬معرفة‭ ‬أو‭ ‬لقاء،‭ ‬آخرون‭ ‬يسردون‭ ‬تجاربهم‭ ‬الشخصية‭ ‬مع‭ ‬الفقيد‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬سمعوه‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬صديق‭.‬
ثم‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تتوالى‭ ‬ردود‭ ‬الأفعال‭ ‬الأيديولوجية‭..‬
‏‭- ‬متواصلون‭ ‬اجتماعيون،‭ ‬يدعون‭ ‬أصدقاء‭ ‬الفقيد‭ ‬إلى‭ ‬الدعاء‭ ‬له‭ ‬بالثبات‭ ‬يوم‭ ‬الحساب،‭ ‬أو‭ ‬تخفيف‭ ‬عذاب‭ ‬القبر،‭ ‬أو‭ ‬الخلود‭ ‬فى‭ ‬الفردوس‭ ‬الأعلى،‭ ‬أو‭ ‬المطالبة‭ ‬بالتشارك‭ ‬فى‭ ‬خاتمة‭ ‬قرآن‭ ‬له‭.‬
‏‭- ‬ولا‭ ‬يخلو‭ ‬الأمر‭ ‬بالطبع‭ ‬من‭ ‬استخدام‭ ‬عبارات‭ ‬من‭ ‬عينة‭ ‬‮«‬ربنا‭ ‬بيحبه‭ ‬علشان‭ ‬كده‭ ‬خده‭ ‬صغير‮»‬‭ ‬و«مع‭ ‬المسيح‭ ‬هذا‭ ‬أفضل‭ ‬جدا‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ادعو‭ ‬له‭ ‬فإنه‭ ‬يسمعكم‭ ‬الآن‮»‬‭.‬
ما‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬التنطع؟‭!!‬
فهل‭ ‬تسنى‭ ‬لواحد‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬المنسى‭ ‬وبشارة‭ ‬عن‭ ‬رأيهما‭ ‬بشأن‭ ‬كل‭ ‬ذلك؟‭! ‬أو‭ ‬ماذا‭ ‬كان‭ ‬يفضل‭ ‬أى‭ ‬منهما‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬بشأنه‭ ‬المقربون‭ ‬له‭ ‬ومنه‭ ‬عند‭ ‬وفاته؟‭!‬
بالقطع‭ ‬لا‭.. ‬ولكن‭ ‬ظنى‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بالإمكان‭.. ‬لكان‭ ‬ردهما‭ ‬واحدًا.. ‬ابتسامة‭ ‬عريضة‭ ‬ضاحكة‭ ‬تملأ‭ ‬الوجه،‭ ‬يخيل‭ ‬للمرء‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتوارى‭ ‬قط،‭ ‬كأنما‭ ‬قد‭ ‬خلقا‭ ‬عضوياً‭ ‬بها‭ ‬هكذا‭.. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلوذا‭ ‬بالانصراف‭ ‬مودعين‭.. ‬لانشغالهما‭ ‬بعمل‭ ‬أهم‭ ‬يستعدان‭ ‬للحاق‭ ‬به‭.‬
هكذا‭ ‬تداعت‭ ‬الأفكار‭ ‬فى‭ ‬رأسى‭ ‬فى‭ ‬طريقى‭ ‬إلى‭ ‬المشفى‭.‬

‏——————————-‭——————–‬

أستبدل‭ ‬ثيابى‭ ‬الآن‭ ‬بملابس‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات‭ ‬الخفيفة‭ ‬السماوية‭ ‬المعقمة‭.. ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬لى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ارتدائها،‭ ‬ولكن‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬بشارة‭ ‬أيضًا،‭ ‬لم‭ ‬يسبق‭ ‬له‭ ‬أيضًا‭ ‬المرور‭ ‬بنفس‭ ‬التجربة‭ -‬لا‭ ‬أعلم‭-‬،‭ ‬بالعكس‭ ‬من‭ ‬المنسى،‭ ‬الذى‭ ‬اعتادت‭ ‬عليه‭ ‬المشافى‭ ‬القريبة،‭ ‬كزبون‭ ‬دائم‭ ‬لنفس‭ ‬السبب،‭ ‬نوبة‭ ‬السكر‭.‬
بخلاف‭ ‬الابتسامات‭ ‬الدافئة‭ ‬الباعثة‭ ‬للارتياح‭ ‬والطاقة‭ ‬الإيجابية‭ ‬والنزول‭- ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬أحدهما‭ ‬الآخر‭- ‬إلى‭ ‬ميادين‭ ‬التحرير‭ ‬أثناء‭ ‬ثورة‭ ‬يناير‭.. ‬يتشارك‭ ‬بشارة‭ ‬والمنسى‭ ‬اللذان‭ ‬أعرفهما‭ ‬فى‭ ‬حب‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالحياة،‭ ‬الفارق‭ ‬الوحيد‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬النقطة،‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬كان‭ ‬يجابه‭ ‬فقط‭ ‬تحدى‭ ‬التزامات‭ ‬العمل‭ ‬المضنية‭ ‬طول‭ ‬الوقت،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬الثانى‭ ‬يتحدى‭-‬أو‭ ‬يتجاهل‭ ‬بمعنى‭ ‬أدق‭- ‬مرض‭ ‬السكر‭ ‬اللعين‭ ‬لشاب‭ ‬فى‭ ‬مقتبل‭ ‬العمر،‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬قاسية‭ ‬تصل‭ ‬أغلب‭ ‬الوقت‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الرفض،‭ ‬وضرب‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬بكل‭ ‬تعليمات‭ ‬الأطباء‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬من‭ ‬ممنوعات‭ ‬وتنظيم‭ ‬للتغذية‭ ‬والنوم‭ ‬والجهد‭.‬
لم‭ ‬يدر‭ ‬بخَلَدى‭ ‬أبدًا‭ ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬المنسى‭ ‬فى‭ ‬حادث‭ ‬طريق،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬قلقى‭ -‬كل‭ ‬القلق‭- ‬أن‭ ‬نفقده‭ ‬فى‭ ‬نوبة‭ ‬رغبة‭ ‬فى‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالحياة،‭ ‬أبى‭ ‬جسده‭ ‬النحيل‭ ‬العليل‭ ‬أن‭ ‬يتحملها‭.‬
أما‭ ‬‮«‬بشارة‮»‬‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬سؤال‭ ‬الموت‭ ‬مطروحًا‭ ‬من‭ ‬الأساس‭.‬

‏————————–‭————————-‬

حالة‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬نحاول‭ ‬جميعًا‭ ‬أن‭ ‬نخفيها‭.. ‬أنا‭ ‬وزوجتى‭ ‬وابنى‭ ‬الأكبر،‭ ‬وأنا‭ ‬أتأهب‭ ‬للولوج‭ ‬لغرفة‭ ‬العمليات،‭ ‬ليس‭ ‬مبعثها‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد‭ ‬صعوبة‭ ‬الجراحة‭ ‬التى‭ ‬أوشكت‭ ‬على‭ ‬البدء،‭ ‬وإنما‭ ‬شعور‭ ‬بالتشاؤم‭ ‬من‭ ‬إجرائها‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الجمعة‭ ‬السوداء،‭ ‬تلك‭ ‬التى‭ ‬ربما‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬شهيتها‭ ‬لاتزال‭ ‬مفتوحة‭ ‬لالتهام‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الموتى‭ ‬الذين‭ ‬يعشقون‭ ‬الحياة‭.‬
اتجاهل‭ ‬نبضات‭ ‬التوتر‭ ‬السائدة،‭ ‬وأتصنع‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الطمأنينة‭ ‬فى‭ ‬الطريق،‭ ‬اتجاذب‭ ‬حديثًا‭ ‬متباسمًا‭ ‬مع‭ ‬طاقم‭ ‬التمريض‭ ‬والطبيب‭ ‬المعالج،‭ ‬وأنا‭ ‬أمنى‭ ‬نفسى‭ ‬بأن‭ ‬يصلح‭ ‬معى‭ ‬التخدير‭ ‬الموضعى‭ ‬المعتاد‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬عوضا‭ ‬عن‭ ‬اللجوء‭ -‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬نادر‭- ‬إلى‭ ‬الكلى‭.. ‬ببساطة‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬واعيًا،‭ ‬أولا‭ ‬لرغبتى‭ ‬لمزاولة‭ ‬عادة‭ ‬التأمل‭ ‬التى‭ ‬يشكو‭ ‬منها‭ ‬أغلب‭ ‬من‭ ‬حولى،‭ ‬وثانيًا‭ ‬للمراقبة‭ ‬تحسبًا‭ ‬للمفاجآت‭!.‬
لم‭ ‬يحظ‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬‮«‬المنسي‮»‬‭ ‬و«بشارة‮»‬‭ ‬بأى‭ ‬وقت‭ ‬للتأمل‭ ‬قبل‭ ‬الوفاة،‭ ‬حادثة‭ ‬سريعة‭ ‬لم‭ ‬تدر‭ ‬بخَلَدهما،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬كان‭ ‬يذهب‭ ‬الأول‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تصدمه‭ ‬شاحنة‭ ‬الموت،‭ ‬فى‭ ‬حين‭ ‬أعلم‭ ‬يقينًا‭ ‬أن‭ ‬زميلتنا‭ ‬زكية‭ ‬هداية‭ ‬كانت‭ ‬تصطحب‭ ‬الثانى‭ ‬فى‭ ‬سيارتها‭ ‬إلى‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬لحضور‭ ‬حفل‭ ‬زفاف‭ ‬يتبقى‭ ‬عليه‭ ‬يومان،‭ ‬لزميلنا‭ ‬الثالث‭ ‬أحمد‭ ‬عواد،‭ ‬ومساعدته‭ ‬فى‭ ‬الترتيبات‭ ‬النهائية‭.. ‬ويا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬مفارقة‭!‬
فيما‭ ‬بعد‭ ‬علمتُ‭ ‬أن‭ ‬عواد‭ ‬قد‭ ‬قضى‭ ‬اليومين‭ ‬المتبقيين‭ ‬على‭ ‬عرسه‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مهمة‭ ‬إبلاغ‭ ‬الأهل‭ ‬بخبر‭ ‬الوفاة‭ ‬المشئوم،‭ ‬والمساعدة‭ ‬فى‭ ‬إجراءات‭ ‬تسلم‭ ‬الجثمانين،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتساءل‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬عواد‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬تقمص‭ ‬دور‭ ‬العريس‭ ‬السعيد‭ ‬أمام‭ ‬عروسة‭ ‬لا‭ ‬ذنب‭ ‬لها‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يجرى‭.. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعدو‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬أمرًا‭ ‬هينًا،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قورن‭ ‬بكشف‭ ‬حساب‭ ‬الخسائر‭ ‬الباهظة‭ ‬الختامى،‭ ‬ليوم‭ ‬الجمعة‭ ‬الدامى‭.‬

‏‭—————————————————————-‬

حاولت‭ ‬الممرضة‭ ‬الجالسة‭ ‬بجوار‭ ‬رأسى‭ ‬الذى‭ ‬أشحت‭ ‬به‭ ‬للناحية‭ ‬اليسرى،‭ ‬كى‭ ‬لا‭ ‬يفزعنى‭ ‬مشهد‭ ‬الدماء‭ ‬التى‭ ‬تغلف‭ ‬يدى‭ ‬اليمنى‭ ‬محل‭ ‬الجراحة‭ ‬الجارية‭.‬‭. ‬أن‭ ‬تكسر‭ ‬حاجز‭ ‬الصمت،‭ ‬سألتنى‭ ‬بلطف،‭ ‬وقد‭ ‬وضعت‭ ‬أناملها‭ ‬فى‭ ‬وضع‭ ‬الاستعداد‭ ‬للمس‭ ‬شاشة‭ ‬هاتفها‭ ‬المحمول‭: ‬تحب‭ ‬تسمع‭ ‬إيه؟
سؤال‭ ‬وكأنه‭ ‬سقط‭ ‬فى‭ ‬رأس‭ ‬يملأها‭ ‬الفراغ،‭ ‬أو‭ ‬بمعنى‭ ‬أدق‭ ‬رأس‭ ‬لا‭ ‬فراغ‭ ‬فيه،‭ ‬سوى‭ ‬لما‭ ‬يتصارع‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬عشرات‭ ‬التفاصيل‭ ‬والتداعيات‭ ‬المتشابكة‭.. ‬احتجت‭ ‬بضع‭ ‬ثوانٍ‭ ‬للإجابة‭: ‬لا‭ ‬أرغب‭ ‬فى‭ ‬سماع‭ ‬شيء‭ ‬محدد‭.. ‬سكتُ‭ ‬ثم‭ ‬تهورتُ‭ ‬فى‭ ‬يأس‭ ‬المتشبث‭ ‬بالحياة‭: ‬لما‭ ‬لا‭ ‬أغنى‭ ‬أنا،‭ ‬وباغتها‭ ‬برفع‭ ‬صوتى‭ ‬بصعوبة‭ ‬شديدة،‭ ‬مرددًا‭ ‬للمقطع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬أغنية‭ ‬‮»‬besame mucho‮«‬ وهى‭ ‬أغنية‭ ‬إسبانية‭ ‬معروفة،‭ ‬يحلو‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أرددها‭ ‬دائمًا،‭ ‬كلما‭ ‬لاح‭ ‬الاكتئاب‭ ‬على‭ ‬الأبواب‭ ‬لتشعرني‭ ‬بالبهجة‭.‬
تملكنى‭ ‬العار،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬باقتراحي‭ ‬فكرة‭ ‬الغناء،‭ ‬ولكن‭ ‬بالمجاهرة‭ ‬به،‭ ‬بصوت‭ ‬خرج‭ ‬رغمًا‭ ‬عنه‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬أى‭ ‬إحساس‭.. ‬فسكت‭.‬
لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتصور‭ ‬اللحظات‭ ‬الأخيرة‭ ‬للمنسى‭ ‬وبشارة‭ ‬فى‭ ‬سياراتيهما‭ ‬دون‭ ‬استمتاعهما‭ ‬بالاستماع‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الموسيقى،‭ ‬هكذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬من‭ ‬أجلهما،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬أجلى‭.‬

‏————————————-‭———————–‬

منذ‭ ‬اللحظات‭ ‬الأولى‭ ‬لتأسيس‭ ‬جريدة‭ ‬المال‭- ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬أثناء‭ ‬الترويج‭ ‬لتأسيسها‭- ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬متخيلًا‭ ‬عدم‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬صيغ‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬‮«‬لينك‭ ‬دوت‭ ‬نت‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬بشارة‭ ‬فى‭ ‬أواخر‭ ‬التسعينيات‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أذكر،‭ ‬كأبرز‭ ‬شركات‭ ‬تقديم‭ ‬خدمة‭ ‬الإنترنت‭ ‬حينها‭.‬
عقدنا‭ ‬عدة‭ ‬اجتماعات‭ ‬مع‭ ‬فرق‭ ‬العمل‭ ‬التى‭ ‬أوكل‭ ‬لها‭ ‬هذه‭ ‬المهمة‭ ‬سواء‭ ‬أثناء‭ ‬قيادته‭ ‬لها،‭ ‬أو‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬عندما‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬أوراسكوم‭ ‬تليكوم‭.. ‬وفى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬يبدأ‭ ‬الأمر‭ ‬بمكالمة‭ ‬منى‭ ‬أو‭ ‬منه،‭ ‬يحرص‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬ترديد‭ ‬عبارة‭: ‬أنا‭ ‬عايز‭ ‬أشتغل‭ ‬معاك،‭ ‬فأرد‭: ‬وأنا‭ ‬كمان‭ ‬عايز‭ ‬اشتغل‭ ‬معاك‭.. ‬حتى‭ ‬تحول‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إفيه‮»‬‭ ‬نتبادله‭ ‬ضاحكين‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬مناسبة‭ ‬عابرة‭.. ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬ظل‭ -‬أو‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭- ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬هذه‭ ‬المحاولات،‭ ‬قد‭ ‬أجهضتها‭ ‬اجتماعات‭ ‬فرق‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬الطرفين‭.‬
للأمانة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المنسى‭ ‬مَن‭ ‬سعى‭ ‬للعمل‭ ‬معى،‭ ‬نصح‭ ‬به‭ ‬الصديق‭ ‬عمرو‭ ‬العراقى،‭ ‬لإدارة‭ ‬مشروع‭ ‬جذري‭ ‬يشمل‭ ‬تغيير‭ ‬بنية‭ ‬الموقع‭ ‬الإلكترونى،‭ ‬بعدما‭ ‬استعنت‭ ‬بالعراقى‭ ‬نفسه‭ ‬لتقديم‭ ‬دورة‭ ‬تدريبية‭ ‬حول‭ ‬المحتوى‭ ‬الرقمى‭ ‬لإدارة‭ ‬التحرير‭ ‬للجريدة،‭ ‬ضمن‭ ‬دورات‭ ‬متعددة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬آخرون‭ ‬معه‭.‬
فى‭ ‬البداية‭ ‬دار‭ ‬صراعي‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬السكندرى‭ ‬النحيف‭ ‬حول‭ ‬إقناعه‭ ‬بمبدأ‭ ‬البقاء‭ ‬والاستقرار‭ ‬وبناء‭ ‬المؤسسة،‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬تصور‭ ‬يسيطر‭ ‬عليه‭ ‬هو‭ ‬وأقرانه،‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬التنقل‭ ‬من‭ ‬مشروع‭ ‬لآخر،‭ ‬وعدم‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بالعمل‭ ‬بمكان‭ ‬واحد‭.‬
فى‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬اقتنع،‭ ‬لنبدأ‭ ‬معًا‭ ‬رحلة‭ ‬كفاح‭ -‬نجحت‭ ‬أحيانًا‭ ‬وأخفقت‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭- ‬لإقناع‭ ‬باقي‭ ‬الفريق،‭ ‬أنجزنا‭ ‬معًا‭ ‬ومع‭ ‬باقى‭ ‬الزملاء‭ ‬فى‭ ‬الجريدة‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المهام،‭ ‬وكانت‭ ‬الخطة‭ ‬تكتظ‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬المؤجلة،‭ ‬لم‭ ‬تشأ‭ ‬إرادة‭ ‬الجمعة‭ ‬الدامى،‭ ‬إتاحة‭ ‬المزيد‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬ليشارك‭ ‬فى‭ ‬إنجازها‭.‬
نعم‭.. ‬أحببتُ‭ ‬المنسى،‭ ‬كابن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬مجرد‭ ‬زميل،‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يتقبل‭ ‬ويسعد‭ ‬بإسدائى‭ ‬النصح‭ ‬له،‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬أبداه‭ ‬من‭ ‬ضجر‭ ‬مئات‭ ‬ممن‭ ‬مروا‭ ‬بى‭.‬
ولكننى‭ ‬تيقنت‭ ‬أكثر‭ ‬أننى‭ ‬أحببته،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬يَسعد‭ ‬بنصائحي،‭ ‬لأنه‭ ‬مثلي‭ ‬ومثل‭ ‬‮«‬بشارة‮»‬‭.. ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬يعشقون‭ ‬متعة‭ ‬الحياة،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أمتلك‭ ‬مثلهما،‭ ‬هذه‭ ‬الابتسامة‭ ‬الضحوكة‭ ‬الربانية،‭ ‬التى‭ ‬تضيء‭ ‬الحياة‭ ‬للآخرين‭.‬
لقد‭ ‬عدتُ‭ ‬سالمًا‭ ‬إلى‭ ‬المنزل‭..‬ ولكنى‭ ‬سأفتقد‭ ‬كثيرًا‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬المنسى،‭ ‬والأمل‭ ‬فى‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬بشارة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬متعة‭ ‬التلويح‭ ‬بذلك‭.‬