لا تزال المجر تلتزم بتوفير شبكة ضمان اجتماعي ضخمة ورثتها عن الحقبة السوفيتية وقد أصبح عجزها عن الوفاء بالتزاماتها حيال هذه الشبكة، يهدد بنشوء أزمة ستهدد استقرارها الاقتصادي، ومن المتوقع امتداد تأثيرات ذلك لأوروبا الشرقية وبقية القارة.
قالت صحيفة »وول ستريت جورنال« إن المجر لا تزال تعاني من تداعيات هروب المستثمرين، بعد أن توقفوا منذ أكتوبر الماضي عن شراء السندات التي تصدرها الحكومة لتمويل المعاشات، مما أدي الي تراجع عملتها، وتوجيه ضربة قاصمة لتوقعات نمو اقتصادها خلال الفترة المقبلة. وأضافت أن انهيار اقتصاد المجر أو دخوله في نوبة ركود عميقة ينذر بحدوث انهيارات متتابعة في اقتصاديات دول منطقة شرق ووسط أوروبا نتيجة هروب المستثمرين.
ولم يجد جبروكساني رئيس وزراء المجر سبيلاً للهروب من اتهامات الفساد الموجهة ضده بعد مطالبته بخفض النفقات للتغلب عن العجز الهائل في الموازنة.. لم يجد سوي التقدم باستقالته التي قبلها الرئيس المجري، وبرز اسم محافظ البنك المركزي كأفضل المرشحين لخلافته.
وقد واصلت المجر طلية عقود ماضية تقديم معاشات لحوالي 3 ملايين شخص من عدد سكانها البالغ 10 ملايين نسمة، وأصبح تزايد أعباء التمويل هو السبب المباشر في عجز ميزانيتها، فهو يقتطع ما نسبته %10 من إجمالي ناتجها المحلي، يدفعها لبيع سندات لتمويل هذه المخصصات.
وتقدم صندوق النقد الدولي من جانبه بخطة انقاذ لمساعدتها علي سداد فواتيرها المتأخرة، لكن عدداً كبيراً من المستثمرين العالميين قرروا الخروج من المجر.
وتلتزم الدولة بمد شبكة الضمان الاجتماعي لأكبر عدد من المواطنين، فيتم دفع رواتب منتظمة لأصحاب المعاشات. تقدم الحكومة معاشات خاصة للمصابين في الحوادث والمعاقين ولأفراد الجيش ورؤساء البلديات والأرامل والمزارعين وعمال المناجم والفنانين المميزين. وتعد المجر هي التحدي الأكبر الذي يواجه الاتحاد الأوروبي الذي لا يزال متردداً في مدها بخطة تحفيز تعد من أمس الحاجة إليها بالنظر إلي أن اقتصادها يزيد 10 مرات علي اقتصاد ايسلندا، الدولة الأوروبية التي تأثر اقتصادها بشدة بأعمق ركود تعاني منه القارة الأوروبية.
وتعاني دول مجاورة للمجر من مشاكل مماثلة. فدولة مثل رومانيا تتعرض لمشاكل متعلقة بالتمويل والعجز وتراجع عملتها، وهو ما دفعها لقبول حزمة دعم من صندوق النقد الدولي بقيمة 19 مليار يورو. وطالت نيران الأزمة جمهورية التشك التي خسرت حكوماتها تصويتا بسحب الثقة، فأصبحت لذلك مجبرة علي تقديم استقالتها.
وهناك دول مجاورة مثل التشيك وبولندا ودول أخري تقع في وسط وشرق أوروبا تمر بظروف اقتصادية أحسن حالا بفضل انتهاج حكوماتها سياسات مالية أفضل. لكنها تخشي من هروب المستثمرين وسحب أموالهم من المنطقة بأكملها في حال انهيار اقتصاد المجر أو دخوله مرحلة ركود عميقة. من المتوقع امتداد التداعيات السيئة لاقتصادات أوروبا الغربية التي تسعي جاهدة لزيادة معدلات النمو في الدول ذات الاقتصادات الناشئة المجاورة لها، وتحصل المجر علي معظم وارداتها من ألمانيا. كما أنها تقترض من بنوك نمساوية وايطالية.
وتقتطع المعاشات جانباً كبيراً من الميزانية العامة للمجر. ورغم أن أصحاب العمل فضلا عن 4 ملايين عامل يساهمون في تمويل المعاشات التي تقدمها فإن مساهماتهم لا تغطي جميع المزايا التي يحصل عليها أصحاب المعاشات. فتتولي الدولة سداد المبالغ المتبقية من الميزانية المركزية. ويعارض أعضاء في الحزب الاشتراكي الذي يرأسه رئيس الوزراء المجري وقف الدعم الذي تقدمه الدولة لتمويل صندوق المعاشات خوفا من فقد أصوات عدد كبير من الناخبين الذين يعتمدون علي هذه المعاشات.
ويطالب خبراء اقتصاديون باصلاح نظام المعاشات. ويري معظهم أن النظام بوضعه الحالي يحفز العمال علي التقاعد مبكراً أو علي ترك العمل لأسباب واهية. ويرغب صندوق النقد الدولي والاصلاحيون المجريون في خفض المعاشات والغاء العلاوة السنوية التي يحصل عليها جميع المتقاعدين التي تعرف باسم علاوة »الشهر الثالث عشر«.
ويقول مارك بيرسون الخبير في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إن النظام ثبت فشله بكل المقاييس.
ويصعب في ظل الركود الحالي خفض المعاشات لأن ذلك سيترك الفقراء بلا أي مصدر رزق آخر يعتمدون عليه، وتتصاعد في هذا الأثناء اتهامات المسنين من أصحاب المعاشات للسياسيين بالتنصل من وعودهم السابقة، والتخلي عنهم في ظل الظروف الحالية، وتحقيق مكاسب شخصية بدعوي إجراء اصلاحات والتربح من الخصخصة.
وقد ورثت المجر نظام المعاشات الحالي من الحقبة السوفييتية.
ويقول يوسف أكبر، الأستاذ في كلية التجارة في جامعة أوروبا الوسطي إن السوفييت قضوا علي الثورة المجرية التي اندلعت عام 1956 وحصل الشعب بموجب اتفاق غير مكتوب مع الحكومات المتعاقبة علي مساحة متواضعة من الحريات ونظام رفاه اجتماعي نظير وقف المعارضة.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي حرصت الدول الشيوعية السابقة المجاورة للمجر علي التخلص من النظام السياسي السائد خلال الحقبة السوفييتية، واندفعت المجر لتطبيق الرأسمالية واتجهت لخصخصة القطاع العام، لكنها لم تستطع المساس بنظام الضمان الاجتماعي.
وزاد عدد المحالين للمعاش في مطلع التسعينيات بسبب تزايد عدد الموظفين الذين تم تسريحهم بعد خصخصة شركات القطاع العام التي كانوا يعملون بها. وارتفعت أعداد العاطلين الذين أصبحوا يحصلون علي رواتب شهرية بلا عمل.
ويقول بيتر هولفتزر رئيس لجنة الخبراء التي شكلتها الحكومة لدراسة نظام المعاشات إن جيلاً واحداً لا يكفي لتغيير النظام الحالي الذي طبق لأول مرة منذ 40 عاماً، وترسخت خلال هذه السنوات عقلية الاعتماد علي الدولة في كل شيء.
وفي أوروبا الشرقية تنفق دولتان هما سلوفينيا وبولندا قسطاً أكبر من إجمالي الناتج المحلي علي المعاشات، لكن سلوفينيا تستطيع نسبياً تمويل هذه المخصصات. كما أن بولندا تطبق سياسات من شأنها تقليص انفاقها علي المعاشات خلال السنوات القليلة المقبلة. ومن المتوقع أن تصبح مخصصات دعم المعاشات في المجر هي الاسرع نمواً خلال العقود المقبلة، وفقاً لتقديرات أصدرتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.
وتوجه انتقادات لنظام المعاشات في المجر لكونه يعاني من خلل واضح في نواح عديدة، فالعمالة ذات الدخول المرتفعة تتلقي أجوراً أكبر مقارنة بالعمالة المناظرة في كثير من الدول الأخري. وينعدم لدي العامل في ظل النظام الحالي الحافز لمواصلة العمل، حيث يتيح له القانون التقاعد عند سن 40 عاماَ والحصول علي معاش مبكر، ويستطيع العامل اختلاق حجج كثيرة تبرر خروجه المبكر للمعاش.
ويتولي المعهد القومي لاعادة التأهيل والضمان الاجتماعي بحث حالات طالبي الخروج المبكر للمعاش، وقام العام الماضي وحده بمراجعة 27.500 حالة جديدة.
ورغم أن عدد الحالات التي يتم التصديق عليها شهدت تراجعاً فإن بعض منتقدي هذا النظام يقولون إن المعهد لا يزال يوافق علي منح المعاش لحالات تتيح ظروفهم العمل في دول أخري.
وتقول اريزبيت فورجو نائبة مدير المعهد إنه يتم منح الموافقات استناداً للتقارير التي يتقدم بها العامل ولا تتوفر في المعهد الأجهزة الكافية اللازمة للتحقق من صحة هذه التقارير خصوصاً في تخصص العيون.
ولا تكفي الضرائب لتغطية تكاليف تمويل مخصصات المعاشات فتلجأ الحكومة للاستدانة، لكن زيادة الأعباء الضريبية تدفع في اتجاه رفع تكاليف العمالة بوتيرة أسرع مما هو متحقق في الدول المجاورة، وهو ما يؤدي للاضرار بقدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية. ويقول نيمثي صاحب شركة للاستثمار المصرفي إن شركته تدفع مليون فلورنت شهرياً لسداد الضرائب المفروضة علي الدخل ورواتب الموظفين بينما يحصل الموظف علي 395.000 فلورنت شهرياً، ويعد هذا هو أكبر فارق في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بعد بلجيكا بين الضرائب التي يدفعها صاحب العمل علي الرواتب وبين صافي الراتب الذي يحصل عليه الموظف.
ويزيد عجز الموازنة المجرية من صعوبة إجراء اصلاحيات ضريبية، فبينما تقوم جميع دول العالم بضخ أموال إضافية في اطار خطط لتحفيز اقتصادها تكتفي المجر بخفض النفقات. واقترح جيركساني رئيس الوزراء المجري المستقيل اجراء تغييرات، فدعا لانتهاج سياسة تقشفية بداية من عام 2008، بعد أن نسبت إليه تصريحات تشير إلي أن الحكومة تحاول أن تتجمل قبل حلول موعد الانتخابات المقبلة لاخفاء التدهور الذي أصاب موقفها المالي، حيث طالب بالغاء العلاوة السنوية ورفع سن الاحالة للمعاش إلي 65 عاماً.
ومن المتوقع بعد أن يتم ملء منصبه الشاغر خلال الأسابيع القليلة المقبلة وادخال تعديلات أخري للحد من النفقات، لكن ذلك سيزيد من الأعباء المعيشية علي كثير من المواطنين الذين يعتمدون تماماً علي المعاشات التي تصرف لهم.