من أرشيف الذكريات ( 84 )

من أرشيف الذكريات ( 84 )
رجائى عطية

رجائى عطية

9:34 ص, الأحد, 29 سبتمبر 13

رجائى عطية :

دارت المباحثات المصرية الأمريكية فى واشنطن، وتولاها عن مصر وزير الخارجية الجديد إسماعيل فهمى، حول مهمتين:

الأولى: توضيح المواقف التى جرت ومماطلة إسرائيل فى الاستجابة للقرارات الصادرة وتجاهل ضمان القوتين الأعظم.

الثانية: عرض المشروع المصرى «للتخلى» على وزير الخارجية الأمريكية، تمهيدًا للوصول لنتائج محددة خلال زيارته المقبلة للقاهرة.

كما حمل إسماعيل فهمى، الالتزام فى حالة موافقة الولايات المتحدة على المشروع المصرى، بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وكان المشروع المصرى «للتخلى»، يتضمن فيما بسطه حافظ إسماعيل فى كتابه، عدة مراحل:

أولاً: الخطوة العاجلة. وتتضمن مراعاة وقف إطلاق النار، ومرابطة قوات الأمم المتحدة فى المواقع الضرورية والملائمة، وعودة القوات الإسرائيلية لخطوط 22 أكتوبر 1973 ؛ وتبادل أسرى الحرب مع هذا الإنسحاب.

ثانيًا: مشروع السلام. وخطوطه أن تنسحب القوات الإسرائيلية إلى خط داخل سيناء يتفق عليه العسكريون يقع من حيث المبدأ شرق المضايق، وأن ترابط قوات الطوارئ فى منطقة بأقصى إتساع للفصل بين قوات الجانبين. ثم بمجرد إنسحاب القوات الإسرائيلية شرقًا إلى منطقة التخلى يُسمح بحرية الملاحة فى البحر الأحمر برفع الحصار البحرى عند باب المندب.

ثالثًا: التسوية النهائية. بإنسحاب إسرائيل إلى الحدود الدولية فى إطار زمنى يحدد، ثم تنتهى حالة الحرب بوصول قوات الأمم المتحدة للحدود الدولية.

رابعًا: مؤتمر السلام. ويعقد تحت إشراف الأمم المتحدة ويضم الأطراف بما فى ذلك الفسلطينيين، ولا مانع من حضور الدول الكبرى.

خامسًا: ملاحظات. تتضمن أن البدء فى تطهير القناة يكون عندما تصل القوات الإسرائيلية إلى منطقة التخلى، وممارسة أهالى قطاع غزة لحق تقرير المصير بإشراف دولى، وفى أثناء الإعداد لمرحلة التخلى المتعلقة بمصر وإسرائيل، تبدأ جولة المباحثات بين سوريا وإسرائيل.

● ● ●

بيد أنه لدى وصول إسماعيل فهمى إلى واشنطن فى 29 أكتوبر، لم تكن الإدارة الأمريكية على إستعداد لإبداء وجهات نظر محددة بالنسبة لتسوية شاملة، فيما عدا العمل لتحقيق التقدم وفق سياسة «خطوة.. خطوة».

وفى إجتماعه الأول بالدكتور كيسنجر، عبر فهمى عن استهدافه إزالة التوتر الذى ساد العلاقات نحو عشرين عامًا، وأن الرئيس السادات يريد تعديلاً جوهريًا تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، وفهم كيسنجر من ذلك أننا لا نرتبط بتحقيق تسوية فلسطينية، خلافًا لما كان عليه موقفنا فى فبراير 1973.

وفى اجتماعه بالوزير المصرى، عبر الرئيس الأمريكى نيكسون عن تأييده لأهداف المرحلة العاجلة بالمشروع المصرى، باعتباره مشروعًا «منطقيًا ومعقولاً وقابلاً للتنفيذ فورًا». وطلب من وزير خارجيته إبلاغ إسرائيل به لعرضه على مجلس الوزراء قبل قدوم جولدا مائير إلى واشنطن، كما طلب نيكسون أن توافق مصر على رفع الحصار عن باب المندب عند إتمام الإنسحاب الإسرائيلى إلى خط 22 أكتوبر، ومع وصفه للمشروع المصرى بأنه «معقول» ويمكن قبوله، وإنْ تطلب إدخال بعض التعديلات، فإنه أشار فى النهاية إلى أنه سيبعث بكيسنجر إلى القاهرة مفوضًا للتباحث مع الرئيس السادات على هذا الأساس.

ويذكر حافظ إسماعيل واقعة يبدو أنها كانت لها دلالات غير مريحة لدى السوفييت، فحواها أن إسماعيل فهمى أبدى فى عشاء أقيم بواشنطن على شرفه، أن التطور السريع فى العلاقات المصرية الأمريكية لن يرضى «الآخرين»، ووصل ذلك إلى السوفييت.. ففى عشاء مقام بالسفارة السوفييتية بالقاهرة، إتجه كوزنتسوف بقصاصة إلى حافظ إسماعيل مكتوب فيها عبارة إسماعيل فهمى التى قيلت فى عشاء واشنطن، متسائلاً عما يعنيهم «بالآخرين». ويضيف حافظ أنه بدا له أن كوزنتسوف لم يقتنع بتفسيره أن الإسرائيليين هم المقصودون بالعبارة. وعلى ذلك كان واضحًا أن الثقة بيننا وبين السوفييت كانت آخذة فى التآكل باضطراد!

وفى المباحثات الى إستؤنفت بواشنطن، أكد كيسنجر رفض أمريكا الالتزام بوقف تسليح إسرائيل طالما استمر الإمداد السوفييتى لمصر، إلاَّ أنه استجاب لمطلب فهمى التعهد بعدم قيام إسرائيل بعمليات عسكرية بغرب القناة قبل انسحابها إلى خط 22 أكتوبر، كما أكد التزام الولايات المتحدة المضى فى اضطلاعها بتحقيق التسوية الشاملة والسلام، وأن بدء مؤتمر السلام سوف يهيئ «خلق الثقة» بين مصر وإسرائيل، وأن الولايات المتحدة قد اتفقت والاتحاد السوفييتى على عقد المؤتمر فى جنيف تحت إشرافهما.. ثم تحدث عن زيارته مرتقبة لمصر، وهكذا بقيت مسألة السويس معلقة.. وستظل كذلك لعدة أيام.

أما المباحثات المصرية الإسرائيلية، عند الكيلومتر 101 طريق القاهرة السويس الصحراوى، والتى بدأت فى الساعات الأولى من فجر 28 أكتوبر، فإنها لم تحقق ما كنا نأمله من نتائج جوهرية، ومنذ الاجتماع الأول بدا أن تركيز إسرائيل على المحافظة على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى ورفع الحصار عن باب المندب.

ولدفع الأمور إلى نتائج جوهرية سريعة، أعطى الرئيس السادات تعليمات للفريق الجمسى بأن يناقش مع الإسرائيليين اقتراحه حول «التخلى» فى منطقة السويس لرفع الحصار عنها، على أن تعقب ذلك مناقشات سياسية وعسكرية حول المشروع المصرى الذى قُدم إلى الولايات المتحدة. ومع أن مصر إظهارًا لحسن النوايا، سمحت لناقلة بترول ليبيرية حمولتها 12300 طن بدخول البحر الأحمر والاتجاه شمالاً، إلاَّ أن المناقشات لم تحقق تقدمًا جوهريًّا، ولم يتجاوز رئيس الوفد الإسرائيلى استعداده لمناقشة ترتيب مرور قول ادارى واحد إلى السويس.

وبذلك وضح رغبة إسرائيل فى استمرار سيطرتها على خطوط مواصلات السويس والجيش الثالث، وأن يكون التموين باحتياجات المعيشة رهنًا بإرادتها، وأن يستمر ذلك لأطول مدة ممكنة ليرسخ فى ضميرنا ولا يصبح حدثًا عابرًا، ولتتقاضى أعلى ثمن يمكن أن تتقاضاه لرفع حصارها عن منطقة السويس.. وأخيرًا، فقد كانت تريد، فيما أورى حافظ، أن تستمر المفاوضات الثنائية حتى تصير أسلوبًا للتعامل معها.

وفى مساء 6 نوفمبر، وصل وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر إلى القاهرة، وبدأ اجتماعاته بالسادات صباح 7 نوفمبر، إلى أن دُعى المساعدون على الجانبين من أجل «صياغة !» الاتفاق الذى تم التوصل إليه يوم 9 نوفمبر، والذى عُرف باسم «اتفاق النقاط الست»، لمعالجة موقف محدود حول منطقة السويس ومسألة الأسرى.

وقبل أن أنقل إليك هذه النقاط الست، يجدر أن نتوقف لنتأمل بدقة عبارة حافظ إسماعيل، حتى لا تتوه منا الرسالة وسط دبلوماسيته الرفيعة.. فأنت تستطيع هنا أن ترى معنى إشارته السابقة:

«الرئيس وحيدًا»، وأن ترى أن لقاء السادات كيسنجر بدأ صباح 7 نوفمبر، وأنه لم تتم دعوة المساعدين على الجانبين إلاَّ «لصياغة» الاتفاق الذى تم التوصل إليه 9 نوفمبر.. فهذه العبارة، رغم الدبلوماسية الرفيعة، تقول كثيرًا، وظنى أنه فى هذا التوقيت اتخذ حافظ إسماعيل قراره بالإنسحاب فى هدوء من منصبه، كما سيظهر فى الأحداث التالية.

هذا وقد شمل اتفاق «النقاط الست» ما يلى:

(1) التزام مصر وإسرائيل بدقة بوقف إطلاق النار.

(2) الموافقة على إجراء مناقشات تبدأ فورًا لتسوية مسألة العودة إلى مواقع 22 أكتوبر فى إطار اتفاق يشمل الفصل بين القوات تحت إشراف الأمم المتحدة.

(3) تتلقى مدينة السويس إمدادات يومية من الأطعمة والمياة والأدوية، ويتم إخلاء جميع المدنيين الجرحى من المدينة.

(4) عدم إعاقة الإمدادات غير العسكرية إلى الضفة الشرقية.

(5) إحلال نقاط مراقبة الأمم المتحدة محل النقاط الإسرائيلية على طريق القاهرة السويس، ويمكن للضباط الإسرائيليين المشاركة مع الأمم المتحدة فى الإشراف على الطبيعة غير العسكرية للشحنات.

(6) يتم تبادل الأسرى بمجرد إقامة نقط المراقبة التابعة للأمم المتحدة.

على أن حافظ إسماعيل، لم يشأ أن يعبر على مباحثات السادات كيسنجر دون إشارة مهمة، فقد أوضح أولاً أنه فى اجتماع السادات لاحقًا بمعاونيه، لخص نتائج الزيارة فيما يلى:

● أن الاتفاق قد تم على التركيز على التسوية العامة، بدلاً من الإصرار على عودة الإسرائيليين إلى خط 22 أكتوبر.

● أن تبادل الأسرى يتم مع «تخلى» إسرائيل عن «بعض» المواقع حول السويس، وتخفيف «حدة» الحصار على باب المندب مع تحقيق التخلى الإسرائيلى.

● أنه لم تجر مساومة حول تحقيق إنسحاب متبادل للجيش الثالث من شرق القناة والقوات الإسرائيلية غربها.

● يعقد مؤتمر السلام فى أوائل ديسمبر، بحضور مصر وسوريا والأردن والقوتين الأعظم والأمم المتحدة، ويبدأ أعماله بالفصل بين القوات على جبهتى مصر وسوريا، ويدعى الفلسطينيون للمؤتمر فى المرحلة التالية.

● أن تدفق البترول مسألة عربية، ويرتبط استئناف وانتظام الإمداد بتحقيق الانسحاب من الأراضى العربية.

● الاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة.

واستوقفنى بعد هذا البيان للنقاط الست التى اتفق عليها السادات مع كيسنجر، عبارة لا يقولها حافظ إسماعيل جزافًا، فقال: «ولقد كان مثيرًا قول الرئيس أنه أمضى أغلب وقت المباحثات مع كيسنجر من أجل فض الاشتباك مع الولايات المتحدة.. وليس مع إسرائيل كما كنا نظن.. واعتبر الرئيس أنه بدأ بذلك صفحة جديدة مع الولايات المتحدة.. وكان تقديره تقدير السادات أنها وحدها القادرة على تحريك الموقف بدون التعاون مع الاتحاد السوفييتى، وأخيرًا، فقد أعرب عن ثقته فى أن «الرجل» كيسنجر.. صادق، وينفذ ما يعد به».. ولا ينهى حافظ إسماعيل هذه العبارة ذات المغزى العميق، دون أن يقفى قائلاً: «وبذلك كسب الدكتور كيسنجر جولته الأولى فى مصر !»

( يتبع )
 

رجائى عطية

رجائى عطية

9:34 ص, الأحد, 29 سبتمبر 13