تحولت البنوك في إدارة ما في حوزتها من أموال خلال الأشهر الأخيرة إلي «التزيد» في إعمال منطق درء المخاطر علي حساب المبادرات الفعالة التي يتزايد الاحتياج إليها وقت الأزمات لاخراج السوق من حالة الكساد التي تخيم عليه.. وهي تحقق في هذا الصدد مقولة ـ كان مايكل زغبي المدير الاقليمي السابق لمؤسسة «فيزا» في الشرق الأوسط قد ذكرها لنا مؤداها ـ إن العقبة الاساسية امام انتشار بطاقات الائتمان في السوق المصري هي «المحافظة »!
والتوصيف الذي أطلقه زغبي هو تحديد دقيق لموقف البنوك من مفهوم «المخاطرة» في العمل المصرفي.. وهو يكاد يكون طابعاً تقليدياً لسياساتها.. يعكس إلي أي حد يستحكم المأزق الذي تواجهه البنوك في هذه المرحلة خاصة مع استمرار المركزي في التركيز علي استخدام سعر الفائدة كهدف تشغيلي للسياسة النقدية في الاجل القصير.. والذي زاد من حالة التحفظ في التوظيفات الاستثمارية لموجودات البنوك .
وهذه القضية كما يري عدد من الخبراء تتأثر بعاملين ينتظر أن يكون لكل منهما دوره في طبيعة ودرجة توظيف تلك الموجودات.. العامل الأول: الزيادة المرتقبة لرءوس أموال البنوك بواقع 500 مليون جنيه كحد أدني لرأس مال البنك ينبغي الوصول إليه خلال 3 سنوات.. والعامل الثاني: هيكل الاموال داخل البنوك وعلاقته بالتوظيف.. وآجاله.. وجودته .
فيما يتعلق بالزيادة المرتقبة لرأس المال تلعب المهلة الممنوحة دوراً في معالجة ضعف مرونة السوق وبطء دورة النشاط بها أما العامل الثاني فإن هيكل الاموال الموجودة بالبنوك وبصفة خاصة الودائع يشير إلي ان نحو %23 من اجمالي هذه الودائع والذي تبلغ قيمته ما يزيد علي 71 مليار جنيه هي اموال تحت الطلب تتوزع بواقع 17 مليار جنيه ودائع جارية بالعملة المحلية ونحو 54 مليار جنيه ودائع جارية بالعملات الأجنبية.. وهذا الكم الضخم من الاموال له طبيعة خاصة جداً في التوظيف تعمل في اطار حيز زمني محدود يقيد التوسع في نوعية الاستشارات متوسطة وطويلة الاجل .
ولمراجعة انعكاسات هذه الوضعية علي توجهات البنوك إزاء سوق الاستثمار قال الدكتور حسن عباس زكي رئيس مجلس إدارة بنك الشركة المصرفية العربية الدولية (SAIB) ان زيادة رءوس اموال البنوك تحتاج إلي تنمية مجالات الاستثمار والوصول إلي زيادة قاعدة المستفيدين من خدماتها عن طريق التوسع في افتتاح الفروع وتنمية خدمات التجزئة المصرفية التي تمتاز بكثافة اعداد عملائها وحاجتهم إلي العديد من المنافذ حيث يكون التوسع في اضافة الفروع الجديدة بمثابة استثمار جديد في حد ذاته يستحوذ علي جانب من التوظيفات.. وهو وضع ستضطر إليه العديد من البنوك التي تتمتع بأصول جيدة لاتحتاج إلي تقليل مخاطرها أو تنقيتها ومن ثم استخدام جانب من هذه الزيادة في دعم معيار كفاية رأس المال .
ويؤكد الدكتور زكي انه في امكان الحكومة والسلطات النقدية التحرك لتنشيط سوق الاستثمار وفي الوقت نفسه خلق طلب فعال يساعد علي استيعاب ما تفرزه هذه السوق من مخرجات وهي في هذا الصدد ـ البنوك ـ في حاجة إلي التخلي عن الطابع المتحفظ الذي يمكن ان يزيد من صعوبة الفرص الاستثمارية المتاحة وهنا يحدث تدخل «المركزي» بإستخدام اسعار الفائدة في الآجال القصيرة مما يزيد من هذا الميل الي التحفظ في الظروف الحالية ويبطء من تهيئة السوق لمواجهة المرحلة القادمة عندما يتخلي «المركزي» عن رفع أسعار الفائدة في الآجال القصيرة ويزداد تدريجياً حجم الأموال المتاحة للتوظيف مع سريان الزيادة في رءوس الاموال وهو ما يوجب الاسراع بالتفكير في ايجاد البدائل بدءاً بهذه المرحلة .
ومن جانبه يري اسماعيل حسن رئيس مجلس إدارة بنك مصر ـ إيران للتنمية والمحافظ السابق للبنك المركزي ان زيادة رءوس اموال البنوك إلي 500 مليون جنيه لن تمثل عقبة في طريق توظيف هذه الاموال في حال إلتزمت كافة البنوك العاملة في السوق بهذه الزيادة لان السوق يمكن ان يستوعب دخول المزيد من الاموال عبر هذا الطريق ولن تمثل له أي نوع من الضغوط لان اجمالي ما يتوقع دخوله خلال فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات لن يزيد علي ما تحققه الودائع من معدلات زيادة تتجاوز في الشهر الواحد ثلاثة مليارات جنيه.. ورغم ذلك لم يتوقف سوق النشاط وجاء استخدام «المركزي» للأداة التي أعلن عنها بصورة غير مباشرة من خلال الأذون لمدة 91 يوماً ليعطي السوق مهلة لاعادة ترتيب الاوضاع والعودة إلي الاجتهاد مجدداً في تقديم الائتمان إلي السوق باعتباره النشاط الاساسي للبنوك ولا مناص في نهاية المطاف مهما طالت الآجال من العودة إليه.. بل لا ينبغي ان تطال من الأصل حتي تتيقن السوق المصرفية من انه لابد من التفكير في وضع برامج جديدة لضخ الائتمان متي امكن التراجع في اسعار الفائدة ومن ثم أسعار تكلفة الأموال .
ولفت حسن إلي ملاحظة بالغة الأهمية فيما يتعلق بتأثير الزيادة في رءوس اموال عدد من البنوك والتي من المنتظر ان تكون محايدة من حيث انها في كافة البنوك التي لم تصل إلي الحد الادني من معيار كفاية رأس المال الذي حدده «المركزي» كمرحلة أولي %10 يرتفع بعد ذلك في نهاية ديسمبر القادم إلي %12.. سوف ترتبط الزيادة في هذه الحالة بالوصول إلي هذا المعدل ومازاد علي ذلك يصبح متاحاً للتوظيف مع ضرورة عدم الاخلال بهذا المعدل .
أما في الحالات التي بالكاد تحسم الزيادة عملية الوصول إلي معيار كفاية رأس المال فسيكون أي توظيف زائد لرأس المال بمثابة اخلال بهذا المعيار.. وهنا سيكون علي البنوك التي تنطبق عليها هذه الوضعية الاعتماد علي تعبئة المزيد من الودائع اللازمة لتنمية الاستمار وزيادة معدلات التوظيف .
ويؤكد أحمد قورة العضو المنتدب ونائب رئيس مجلس إدارة البنك الوطني المصري بدوره علي أهمية توسع البنوك في تعبئة الودائع من أجل التوظيف خاصة وان %14 منها يذهب ضمن بند الاحتياطي الإلزامي بالبنك المركزي.. اضافة إلي ضرورة احتفاظ البنوك بنسبة سائلة من هذه الاموال داخل فروعها المختلفة لتلبية أي مطلوبات عاجلة سواء بالجنيه أو العملات وهي غالباً في حدود 5 بالمائة اضافة إلي ما يعرف بالاموال «الطائرة» بين البنوك وهي عبارة عن شيكات وكمبيالات وحوالات لا تزيد نسبتها علي %5 اخري وبالتالي لابد من توظيف ماتبقي حتي يقلل البنك من تكلفة الاموال لديه ولكن هيكل توزيع الاموال داخلة يفرض عليه قدراً من التحفظ في التوظيف عندما تتزايد لديه الاموال تحت الطلب والتي تنشط البنوك حالياً في منح المزايا لها بعد ان نجحت اسعار العائد علي اذون الخزانة لمدة 91 يوماً التي يطرحها المركزي في ايجاد توظيف مربح لها في الاجل القصير ولكن مثل هذه الاموال عندما يوقف «المركزي» ارتفاع هذا العائد ستتحول إلي عبء توظيفات البنوك التي ترتفع كلفة الاموال بها.. بينما الاموال التي كانت اذون الخزانة تلتهمها فإذا لم تفعل إلتهمتها اسعار الاقراض بين البنوك «الانتربنك».. وهو ما يفقد «المركزي» فاعليته متي أعلن عن تراجعه في طلب الأذون بالمعدلات التي سادت خلال الفترة القليلة الماضية .
وهذا من وجهة نظر قورة يزيد من حالة التحفظ داخل البنوك في منح الائتمان انتظاراً لحسم الاوضاع الراهنة.. حيث سبق لاوضاع الرواج ان دفعت توظيف الودائع إلي معدلات تراوحت ما بين %106 و%110 نتيجة لجوء بعض البنوك إلي الاعتماد علي جانب من حقوق الملكية وتدويرها لزيادة معدلات الربحية.. وهو ما يصعب تكراره في المرحلة الحالية .
وأوضح قورة ان هناك نوعية في هيكل أموال البنوك تمثل عنصر امان اضافياً في حالات ارتفاع المخاطر الناجمة عن قلة جودة الاصول هي نوعية من الودائع تعرف بـ «الودائع الراسخة» التي تستمر بالبنوك لفترات طويلة بصرف النظر عن اسعار العائد وهي في الجانب الاعظم منها ودائع للقطاع العائلي .
واعتبر عمرو الجنايني نائب المدير العام ومدير الخزانة بالبنك المصري المتحد انه لا توجد مبررات قوية للتذرع بهيكل الاموال داخل البنوك لتبرير تحفظ البنوك إزاء ضخ الائتمان لافتاً إلي انه لا يمكن التمييز في الاموال المتاحة للتوظيف داخل البنك بين أموال تحت الطلب «يقوم بتوظيفها في قطاع معين واموال اخري يخصصها للتوظيف طويل الاجل.. بقدر ما تكون هناك عوامل اخري لتأمين طلب الاموال محدودة المدة (أقل من شهر) وبالتالي يتم التوظيف وفقاً للقواعد التقليدية.. ومع ذلك فهناك استخدامات للاموال في الآجال القصيرة يمكن ان تخدم هذا الهيكل ولا تمثل ضغطاً عليه مثل تعويض أي خلل في نسبة الاحتياطي الإلزامي المحتفظ به في البنك المركزي .
كما انه قد يتم توظيفها في شراء اذون للخزانة في الآجال القصيرة أو اقراض غيرها من البنوك عن طريق عمليات «الإنتربنك» لان هذه الاموال المتاحة في الغالب عبر الحسابات الجارية يكون سعر الفائدة عليها صفراً.. ومن ثم فهي علي العكس قد تدفع البنوك إلي تنشيط عمليات الاقراض قصيرة الاجل وبالتالي فإن البنوك عندما تتعلل بصعوبة التوظيف فإن ذلك يكون مرجعه في الاغلب إلي النزعة «التحفظية» التي تسود الجهاز المصرفي .
وحول قدرة البنوك علي تعظيم الاستفادة من الاموال تحت الطلب في انشطة سوق الاوراق المالية اكد الجنايني ان السوق لم تنضج بالقدر الكافي لاستيعاب تلك التعاملات بعد حيث لا تتسم الأوراق المالية التي يتم التعامل عليها في البورصة المصرية بالقابلية العالية للتسييل وهو ما يكفي لتحجيم مثل هذه الاستفادة .
الصورة التي تقدمها السوق المصرفية من حيث الاستعداد لدخول حصيلة الزيادة في رءوس اموال البنوك إليها أو تعظيم الاستفادة من هيكل الاموال داخلها تصب في نهاية المطاف في اتجاه الحاجة إلي تنمية سوق الاستثمار ولكن دون آليات حقيقية لتجاوز النزعة التحفظية وأخذ زمام المبادرة لاستئناف التسهيلات الائتمانية !