إعداد ــ جهاد سالم
تستهدف قناة السويس الجديدة تقديم قيمة مضافة للميزة التنافسية لقناة السويس وتلافى المشكلات القديمة من توقف قافلة الشمال لمدة تزيد على 11 ساعة فى منطقة البحيرات المرة، لينخفض زمن انتظار السفن عند عبورها القناة إلى ثلاث ساعات فقط، فضلا عن تمكينها من استيعاب السفن العملاقة بغاطس 65 قدما.
وتقدرالإيرادات الإضافية المتوقعة جراء تنفيذ مشروع توسيع القناة بـ4.7 مليار دولار سنويا، تضاف على نحو 5 مليارات دولار، هى الإيرادات المقدرة لها عن عام 2014، ومن المنتظر ان ترتفع هذه العوائد إلى أكثر من ذلك فى حال اكتمال المشاريع المرتبطة بـ«تنمية إقليم قناة السويس».
وتعلق البلاد آمالا جمة على الانعكاسات الإيجابية المباشرة على الدخل القومى المصرى من العملة الصعبة مع زيادة فرص العمل لأبناء مدن القناة وسيناء والمحافظات المجاورة، فضلا عن خلق مجتمعات عمرانية جديدة وتعظيم القدرات التنافسية لها وتميزها على القنوات المماثلة رفع درجة التصنيف العالمى للمجرى الملاحى.
ويبلغ طول قناة السويس الحالية قبل تنفيذ التوسعات الجديدة، 193 كم وتصل ما بين البحرين الأبيض والأحمر، وتنقسم إلى قسمين، شمال وجنوب البحيرات المرة، وتسمح القناة بعبور السفن فى اتجاهين متوازيين فى نفس الوقت بين كل من أوروبا وآسيا، وتعتبر أسرع ممر بحرى بين القارتين وتوفر 15 يوماً فى المتوسط من وقت الرحلة عبر طريق رأس الرجاء الصالح.
الميزات التنافسية
وتتميز «قناة السويس» بأنها أطول قناة ملاحية على مستوى العالم دون أهوسة بعكس قناة بنما التى تمر على 12 هويسا لرفع السفن لمستوى الأرض المرتفعة على طول المجرى، بالإضافة إلى أن انخفاض نسبة الحوادث فيها تكاد تكون معدومة مقارنة بالقنوات الأخرى وتتم حركة الملاحة فيها ليلاً ونهاراً.
وتعد «قناة السويس» أقصر طريق يربط بين الشرق والغرب ويصبغ عليها هذا الموقع الفريد طابعا من الأهمية الخاصة للعالم ولمصر كذلك، وتتعاظم أهميتها بقدر تطور وتنامى النقل البحرى والتجارة العالمية ؛ حيث يعد النقل البحرى أرخص وسائل النقل ولذلك يتم نقل ما يزيد على %80 من حجم التجارة العالمية بواسطة النقل البحرى.
فيما تمثل «التوسعات الجديدة» ازدواجًا طوليًا مكملا للتفريعات القائمة لتشكل مجتمعة ازدواجا متصلا على جسم القناة بطول «80.5 كم» وذلك من خلال ربط القناة الجديدة بتفريعة البلاح «8.9 كم» لتمكين السفن والناقلات من العبور فى كلا الاتجاهين فى ذات الوقت، وتلافى مشكلة الانتظار الطويل للقوافل بمنطقة البحيرات المرة والذى كان يصل إلى11 ساعة.
وتم تدشين المشروع الجديد يوم 5 أغسطس 2014 متضمنا حفر قناة موازية للمر الملاحى الحالى بطول «72 كم» منقسمة من الكيلو متر 60 إلى الكيلو متر 90 بطول 35 كم مضاف إليها توسيع وتعميق تفريعات البحيرات المرة وتفريعة البلاح بطول 37 كم.
ويستهدف المشروع تخفيض زمن رحلة عبور القناة بشكل عام، كما أنه سيسمح للسفن العملاقة بغاطس 65 قدما بالمرور، والمتوقع أن يحقق زيادة دخلها بنسبة %259 بتكلفة تصل إلى 4 مليارات دولار.
تمويل المشروع
وكما شقت قناة السويس القديمة بتمويلات مصرية، مول المصريون تنفيذ التوسعات الجديدة من مدخراتهم حيث تسببت أزمة العجز بميزانية الدولة مع ارتفاع تكلفة تمويل المشروع، فى بحث الحكومة عن آلية جديدة لتمويل تنفيذ المشروع تضمنت طرح شهادات استثمار على المواطنين، بعائد %12 ولمدة 5 سنوات، بهدف جمع 60 مليار جنيه مصرى خلال شهر من طرح الشهادات.
وتمكنت الحكومة من جمع 64 مليار جنيه، خلال ثمانية أيام فقط، وسط إقبال عظيم من المواطنين على شراء الشهادات تجسدت فى صورة طوابير على أبواب البنوك.
وأعلنت هيئة قناة السويس، أن تكلفة الحفر بالقناة الجديدة تقدر بـ8 مليارات دولار، منها 4 لحفر قناة موازية للمجرى المائى الحالى لقناة السويس، والذى يبلغ طوله بعد آخر تطوير أُجرى للقناة فى عام 2009 نحو 192 كيلومترا، ويبلغ طول القناة الموازية 72 كيلومترا، تتضمن شق 35 كيلومترا منها بتقنية الحفر الجاف، واستكمال ما تبقى من الطول المقترح للقناة والبالغ 37 كيلومترا بتعميق مجرى القناة الحالية ووصله بالجزء المنفذ بالحفر الجاف.
بالإضافة إلى 4 مليارات أخرى لحفر 6 أنفاق تعبر أسفل قناة السويس، 3 فى الإسماعيلية، و3 فى السويس، و2 لعبور السيارات، وواحد للقطارات، وذلك لكل محافظة، أى ما يوازى 60 مليار جنيه مصرى تقريباً.
وتمت عمليات الحفر من خلال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، والتى استعانت بـ17 شركة وطنية مدنية تعمل تحت إشرافها.
مخطط التوسعات
وتعود فكرة التوسعات الجديدة بقناة السويس، إلى نهاية السبعينيات عندما طرحه المهندس حسب الله الكفراوى وزير الإسكان حينها على الرئيس أنور السادات، لكن المشروع لم يخرج للنور، ثم أعيد طرحه على المخلوع حسنى مبارك، لكن أيضا لم يخرج للنور ولم يُتخذ أى خطوات تنفيذية تجاهه.
فى عام 2012 قدمت جماعة الإخوان المسلمين مشروع تنمية محور قناة السويس ضمن مشروعهم المسمى “النهضة” أثناء انتخابات الرئاسة المصرية 2012، وفى عام 2013 أقامت حكومة الدكتور هشام قنديل مؤتمراً صحفياً فى عهد الرئيس المعزول محمد مرسى أعلنت فيه أنه سيتم الاتفاق مع المكتب الاستشارى الذى سيتولى تنفيذ المخطط العام للمشروع والتعاقد معه بحلول الأول من سبتمبر 2013، حيث سبق أن تم الطرح الأول لتنفيذ المخطط العام فى نهاية أبريل 2013، على أن تكون مدة تنفيذ المخطط العام ستكون 9 أشهر.
مراحل المشروع
ويترقب المستثمرون على المستويين العالمى والمحلى، بدء طرح المرحلة الثالثة من المشروع والتى ستحول معها قناة السويس من مجرى ملاحى يتم من خلاله تحصيل رسوم على عبور السفن المارة إلى استقطاب استثمارات بمليارات الدولارات لانشاء مناطق لوجيستية.
ويتضمن مشروع قناة السويس الجديدة ثلاث مراحل، انتهت اثنتان حتى الآن، وتبقى مرحلة ثالثة وأخيرة «تنمية إقليم قناة السويس»، حيث ينقسم مشروع القناة الجديدة إلى مرحلة الحفر الجاف، ثم مرحلة الحفر المائى والتكريك، ومرحلة أخيرة، وهى تنمية المنطقة المحيطة بالقناة، أو ما يطلق عليه «تنمية إقليم قناة السويس».
وبدأ تنفيذ المرحلة الأولى «الحفر الجاف» فى السابع من أغسطس 2014، بعد يومين فقط من تكليف الرئيس السيسى لرئيس أركان الهيئة الهندسية التابعة للقوات المسلحة اللواء كامل الوزيرى، بالإشراف على المشروع، خاصة فى مرحلته الأولى، الحفر الجاف.
ولكى يتم الانتهاء من المشروع فى الزمن المحدد – عام واحد – كان لابد من الاستعانة بعدد أكبر من الشركات والعمالة التى تقوم بإنجاز هذه المرحلة، وبالفعل شارك فى هذه المرحلة 44 ألف مواطن مصرى، بمصاحبة 4500 معدة، و62 شركة مصرية، وتمت إضافة كتيبتين من القوات المسلحة لإزالة الألغام ومخلفات الحرب، إضافة لكتيبتى الطرق للمساعدة فى عمليات الحفر، وبالفعل استطاعوا إنهاء الحفر الجاف بنسبة %100 خلال 9 شهور، وكانت الكمية المطلوب حفرها من الرمال 250 مليون متر مكعب من الرمال.
وبدأ العمل فى المرحلة الثانية…الحفر المائى «التكريك» مباشرة بعد انتهاء الحفر الجاف، والوصول إلى العمق المطلوب وظهور مياه بأرضية القناة الجديدة، وشارك فى هذه المرحلة 5000 عامل ومهندس شاركوا فى التكريك المائى، إضافة إلى «تحالف التحدى»، وهو عبارة عن أسطول كراكات هيئة قناة السويس، وشركة الجرافات الوطنية الإماراتية “NMDC” وشركتى «فان أورد» و«بوسكالس» الهولنديتين وشركتى «جان دو نيل» و«دريدجينج انترناشيونال» البلجيكيتين و«جريت ليكس» الأميركية، واشترك خلالها 45 كراكة، 23 منها أنهت عملها بالفعل، و22 أخرى تغادر الموقع بالتناوب، إضافة إلى 4 فنادق عائمة منذ بداية المشروع لاستراحة العاملين وتناوب الورديات، وأنهى تحالف التحدى عمله فى 267 يوماً.
وتعد المرحلة الثالثة «تنمية إقليم قناة السويس» محط انظار المستثمرين على المستويين العالمى والمحلى، ومن المتوقع بدؤها مباشرة بعد افتتاح القناة الجديدة، وتتضمن هذه المرحلة كما هو معلن حتى الآن 42 مشروعاً ذات أولوية، منها 6 ذات أهمية قصوى، وهى: «تطوير طرق القاهرة ـ السويس الإسماعيلية ـ بورسعيد إلى طرق حرة، للعمل على سهولة النقل والتحرك بين أجزاء الإقليم والربط بالعاصمة، وإنشاء نفق الإسماعيلية المار بمحور السويس للربط بين ضفتى القناة «شرق وغرب»، وإنشاء نفق جنوب بورسعيد أسفل قناة السويس لسهولة الربط والاتصال بين القطاعين الشرقى والغربى لإقليم قناة السويس، إضافة إلى تطوير ميناء نويبع كمنطقة حرة، وتطوير مطار شرم الشيخ وإنشاء مأخذ مياه جديد، على ترعة الإسماعيلية حتى موقع محطة تنقية شرق القناة لدعم مناطق التنمية الجديدة.
وتنقسم المرحلة الثالثة من المشروع جغرافياً إلى 3 مناطق الاولى، منطقة شرق بورسعيد وطبقا لمخططاته تتضمن محطتين للحاويات وأخريين للصب السائل ومحطة تموين «لوجستية» وأخرى للحبوب.
والمنطقة الثانية بالإسماعيلية الجديدة ووادى التكنولوجيا، وتشمل مراكز التنمية لهذه المنطقة: صناعات الإلكترونيات والميكروالكترونيات والهندسة الطبية والآلات الدقيقة ومعدات الاتصال، وتضم أيضا المنطقة الصناعية لمدينة القنطرة شرق.
أما الثالثة فهى شمال غرب خليج السويس وتضم كلا من المنطقة الصناعية فى شمال غرب خليج السويس، والصناعات الثقيلة التى تقع غرب المنطقة الجنوبية للخليج، وستشمل أيضا مركز معلومات ومجمع خدمات تموينية ومجمعا طبيا ومراكز أبحاث وجامعة ومعاهد تعليمية.
حفل الافتتاح
ومن المنتظر ان يتم افتتاح القناة اليوم من خلال حفل تاريخ لن تتغافله مانشيتات الصحف العالمية، كما لم تغفل حفل افتتاح القناة الأول منذ 146 عاما، وتضمن التجهيزات لفاعليات الحفل: 30 خيمة لاستقبال الضيوف وممثلين لكل فئات الشعب المصرى بما فيهم أسر الشهداء وعروضا بطائرات الـ«إف 16»، بالاضافة إلى عرض بحرى يستقل خلاله الرئيس السيسى السفينة «المحروسة» كما استقلها الخديو اسماعيل إبان الافتتاح الاول منذ 146 عاما.
وتبدأ الاحتفالية بعزف السلام الوطنى واستعراض حرس الشرف، ثم عرض فيلم وثائقى بعد إطلاق الرئيس إشارة بدء الحفل، يعقبه إلقاء كلمة ترحيب للفريق مهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس، ثم يقوم رئيس الجمهورية بالتوقيع على وثيقة بدء تشغيل قناة السويس الجديدة، يلقى بعدها كلمة، وفى نهايتها سيعطى الرئيس إشارة بدء تشغيل القناة الجديدة، ويبث فى تلك الأثناء عدد من الأغانى الوطنية، ثم يلتقط الرئيس صورة تذكارية مع الرؤساء والزعماء والملوك، ثم يعودون بحراً إلى مقر الضيافة، ثم إلى خيمة العشاء، ويلى العشاء، حفل ليلى ويشمل أوبرا وأغانى وطنية ويعزف عمر خيرت مقطوعات موسيقية، ثم مشهد النصر، وينتهى الحفل بالسلام الوطنى.
أبزر الشخصيات المدعوة
ومن أبرز الشخصيات المنتظر حضورها حفل الافتتاح الشيخ محمد بن راشد، رئيس الوزراء الإماراتى وحاكم دبى، الملك سلمان بن عبدالعزيز ملك السعودية، ولى ولى العهد محمد بن سلمان وزير الدفاع السعودى، بالإضافة للشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبوظبى، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية ورئيس الوزراء الليبى، عبدالله الثنى، والرئيس اليمنى عبدربه منصور، والرئيس التونسى القائد السبسى، والرئيس السودانى عمر البشير، ورئيس وزراء إثيوبيا، والرئيس الفلسطينى محمود عباس.
ومن أبرز زعماء الغرب الرئيس الفرنسى فرانسوا هولاند، الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وبرفقته وزير الخارجية الروسى، والرئيس اليونانى، كارلوس بابولياس، ووزير الخارجية الأمريكى جون كيرى نيابة عن الرئيس الأمريكى.
فاعليات افتتاح عام 1869
ويعود بنا حفل اليوم إلى حفل افتتاح القناة منذ 146 سنة، والتى بدأت الفعاليات بحفلة دينية بعد ظهر يوم 16 نوفمبر 1869، وأقيمت ثلاث منصات خشبية كبيرة على شاطئ البحر مكسوة بالحرير والديباج ومزينة بالأعلام ومفروشة بأثمن السجاجيد ونشرت فى أرجائها الرياحين والورود وصفت فيها الكراسى، فخصصت منصة الوسط للضيوف وعلى رأسهم مضيفهم خديوى مصر.
وخصصت المنصة اليمنى للعلماء المسلمين فى مقدمتهم الشيخ السقا والشيخ العمروسى والشيخ المهدى العباسى مفتى الديار المصرية، فيما خصصت المنصة اليسرى لأحبار الدين المسيحى ورجال الإكليروس وعلى رأسهم المنسيور كورسيا أسقف الإسكندرية والمنسيور باور الرسول البابوى، ونصب على الشاطئ الآسيوى خيالة بورسعيد وعلى الشاطئ الإفريقى المظلات البديعة للجماهير المدعوين، ووقفت السفن بالمرفأ على شكل قوس وكان عددهم يفوق الثمانين بجانب خمسين حربية منها 6 مصرية ومثلها فرنسية و12إنجليزية و7 نمساوية و5 ألمانية وواحدة روسية وواحدة دنماركية واثنتين هولنديتين واثنتين إسبانيتين.
وفى الثانية بعد ظهر يوم 16 نوفمبر أخذ المدعوون يتقدمون نحو الإيوان والمظلات حتى جلس كل فى مكانه فتوسطت الإمبراطورة أوجينى الصف الأول وإلى يمينها إمبراطور النمسا والخديو إسماعيل ثم ولى عهد روسيا فولى عهد هولندا وعقيلته وإلى يساره جلست مدام اليوت عقيلة سفير إنجلترا بتركيا فالسفير إليوت فالأميرة مورا، وعلى اليمين جلس الأمير محمد توفيق باشا ولى عهد مصر فالأمير هوفمان لو فمدام أغنانيف فالجنرال أغنانيف.
المدافع تدوى إيذانا ببدء الحفل.. ويخت الخديو إسماعيل يتقدم
ودوت المدافع متتابعة من كل الجهات إيذاناً ببدء الحفل الدينى، ومن ثم تقدم المنسيور كورسيا يحوطه رجال الإكليروس وتلاه صلاة حارة، ثم تقدم المسيو باور وألقى بصوت جهورى وبعبارة فرنسية بليغة خطاباً وجهه إلى الخديو أولا خصه فيه بآيات الشكر والثناء على قيامه بهذا العمل العظيم الذى أدى إلى تصافح الشرق والغرب، وعند المساء مدت الموائد متتابعة لستة آلاف مدعو وبها أشهى الأطعمة والأشربة، حتى إذا حلت الساعة الثانية بدت الأنوار والزينات على ضفتى القناة كأنها ضياء الصباح، وظهر يخت الخديو «المحروسة» فى حلة من الأنوار وأخذ يطلق مدفعا بين دقيقة وأخرى والموسيقى تدوى بنغمات الفرح والسرور وانقضى الليل واختتمت الحفلة بالألعاب النارية، وعند شروق شمس صباح يوم 17 نوفمبر كانت السفن تمر فى قناة السويس وقد استعدت للإبحار وتقدمها يخت الإمبراطورة أوجينى.
«ولم تكن فكرة ربط البحرين الاحمر والابيض غائبة عن مخيلة من توالوا على حكم مصر على مر العصور حيث تعود الفكرة الى القدماء المصريين» ولا غرابة فإن بوغاز السويس وموقع مصر الجغرافى يغريان على تنفيذ هذه الفكرة حيث كانت مصر دوما بمثابة سوق لتبادل التجارة بين الشرق والغرب، وكان من الطبيعى أن يفكر حكامها منذ القدم فى تحسين حالة تجارتها لا سيما أن المجارى المائية كانت أقل سبل النقل تكلفة، فى حين كانت قوافل الجمال عبر الصحراء تتطلب حراسة باهظة التكاليف ضماناً لأمنها وسلامتها.
أبرز مسمياتها على مر العصور
وبدأ ربط البحرين من خلال قناة صناعية تربط بينهما فى عهد الفراعنة ولكن بشكل غير مباشر وذلك من خلال ربطهما بنهر النيل أو بأحد فروعه «الفرع البيلوزى»، وكانت أول قناة أنشأها سنوسرت الثالث أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة عام 1874 ق.م، ثم أهملت وأعيد افتتاحها عدة مرات تحت عدة أسماء منها: قناة سيتى الأول عام 1310 ق.م، فقناة دارا الأول عام 510 ق.م.، ثم بطليموس الثانى عام 285 ق.م، وقناة الرومان فى عهد الإمبراطور تراجان عام 117، وقناة أمير المؤمنين عام 640، بعد الفتح الإسلامى لمصر على يد عمرو بن العاص، وظلت 150 عاماً إلى أن أمر الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور بردم القناة التى كانت تصل بين الفسطاط والسويس، وسدها من ناحية السويس، منعاً لأى إمدادات من مصر إلى أهالى مكة والمدينة الثائرين ضد الحكم العباسى، ومن ثم أغلق الطريق البحرى إلى الهند وبلاد الشرق وأصبحت البضائع تنقل عبر الصحراء بواسطة القوافل.
إعادة طرح شق القناة
وعلى مر العصور تمثل قناة السويس بعدا استراتيجيا مؤثرا فى الأمن القومى المصرى والعالمى، وبدأ التفكير فى شق القناة الحالية بعد تغير موازين القوى العالمية إثر اكتشاف رأس الرجاء الصالح، حيث إنه عقب اكتشاف الرحالة البرتغالى «فاسكو دا غاما» طريق رأس الرجاء الصالح، تضرر اقتصاد وتجارة مصرالمملوكية واقتصاد البندقية ونابولى وجنوة بشكل بالغ، فما كان من أمراء البندقية إلا أن وفدوا على مصر عام 1501 ليعرضوا على السلطان الغورى فكرة الاستغناء عن طرق القوافل واستبدالها بالنقل عبر النيل بحفر قناة تصل بين البحرين الأحمر والأبيض، إلا أن ظروف مصر وصراعها مع العثمانيين فى ذلك الوقت والذى انتهى باحتلالهم للقاهرة سنة 1517 لم يسمح بإنشاء مشروع بهذا الحجم، ومات المشروع حتى اقترحه الفيلسوف الألمانى الشهير لايبيتز على الملك لويس الرابع عشر فى إطار مشروع شامل لغزو مصر، ولكن الملك لويس لم يُرِد إغضاب الباب العالى فى الأستانة من ناحية، ولأن أحلامه التوسعية كانت فى أوروبا.
وعندما قامت الثورة الفرنسية دخلت فرنسا فى صراعات مسلحة دموية مع ممالك أوروبا واستطاعت الانتصار عليها إلا مملكة واحدة وهى انجلترا؛ أرادت فرنسا قطع طريق المستعمرات البريطانية فى الهند باحتلال مصر فقامت الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798.
تجدد الفكرة مع الحملة الفرنسية
وبدأت فكرة إنشاء القناة الحالية مع قدوم الحملة الفرنسية على مصرعام 1798، بعد تلقى نابليون بونابرت أمراً مباشراً من حكومة الديركتوار التى كانت تحكم فرنسا بالقيام بحفر قناة تربط بين البحرين ولذا كانت تسمى قناة البحرين، وفى 14 نوفمبر 1799، كلف نابليون بونابرت، أحد المهندسين الفرنسيين ويدعى لوبيير بتشكيل لجنة لدراسة منطقة برزخ السويس لبيان جدوى حفر قناة اتصال بين البحرين، إلا أن التقرير الصادر عن لجنة لوبيير كان خاطئاً وذكر أن منسوب مياه البحر الأحمر أعلى من منسوب مياه البحر المتوسط بمقدار 30 قدما و6 بوصات، بالإضافة لوجود رواسب وطمى النيل وما يمكن أن يسببه من سد لمدخلها مما أدى لتجاهل تلك الفكرة.
وعقب عودة نابليون إلى فرنسا عام 1801 بعد فشل حملته على مصر التى استمرت 13 شهراً، أرسل دبلوماسياً اسمه ماتيو دى لسبس إلى مصر لاختيار وال لمصر موال لفرنسا يحكمها بعد أن قام الإنجليز باختيار البرديسي، فوقع اختيار ماتيو ديلسيبس على محمد على الضابط الألبانى القريب من شيوخ الأزهر فاصطفاه وقدم له المشورة والمساعدة وهو ما لم ينسه محمد على، وعندما مات ماتيو ديلسبس جاء ابنه الشاب فرديناند ديلسيبس كقنصل مساعد لبلاده فرنسا فى الإسكندرية واستقبله محمد على بحفاوة كبيرة وعرض عليه أن يعمل فى القصر مربياً ومعلماً لابنه محمد سعيد باشا وعلى إثر ذلك توطدت الصداقة بين الدبلوماسى الفرنسى والأمير.
عهد «محمد على»
وفى عصر محمد على سنة 1832 طرح مجموعة من المهندسين من خريجى مدرسة البوليتكنيك الشهيرة وكانوا مفتونين بعظمة نابليون ويطلق عليهم اسم «السان سيمونيين وحصلوا على إذن منه بالذهاب إلى الموقع من جديد وتبين لهم أن البحرين مستويان وأن مهندس نابليون أخطأ الحساب والتقدير، إلا أن محمد على رفض فكرة حفر القناة إلا بشرطين أولهما: أن تضمن القوى العظمى حيادية القناة، وبالتالى استقلال مصر، وثانيهما أن تمول القناة بالكامل من الخزانة المصرية، مما أظهر حنكة وبُعد نظر محمد على باشا فى مسألة القناة، إلا أن الشرطين قوبلا بالرفض.
وبعد أن جاء سعيد باشا إلى سُدة الحُكم، فى وقت كانت أسرة ديلسبس تعانى الفقر والعزلة منذ سقوط إمبراطورية نابليون، فما كان من ديلسبس إلا أن ركب أول سفينة متجهة للإسكندرية ليصلها فى 7 نوفمبر 1854 ويلتقى صديقه الذى أصبح خديوى مصر فى 11 نوفمبر، وهناك عرض ديلسبس مشروع حفر القناة على سعيد باشا الذى قبل فوراً ما رفضه والده.
بدء الحفر
وفى 30 نوفمبر 1854 صدر فرمان من الباب العالى بمنح الامتياز الأولى لفرديناند ديلسبس بحق إنشاء شركة لشق قناة السويس، وقد عدلت بعض أحكام هذا الفرمان بآخر صدر فى 5 يناير 1856، وبدأ العمل فى حفر القناة فى 25 أبريل 1859، وسرعان ما وقعت بعض الخلافات بين الشركة والباب العالى، ثم سويت بإبرام اتفاقية جديدة فى 22 فبراير 1866 والتى حددت الشروط النهائية لوضع شركة قناة السويس.
وتم افتتاح القناة للملاحة فى 17 يناير 1869، ومرت فيها جميع سفن العالم، دون أى عقبة ودون الحاجة إلى اتفاقية دولية لضمان حق المرور بالقناة، إلا أنه بعد الاحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882، وفى أعقاب الثورة العرابية، اجتمعت الدول الكبرى فى باريس عن طريق لجنة دولية سنة 1885، لوضع وثيقة دولية لضمان حرية الملاحة فى قناة السويس، لكن لم تستطع الدول المجتمعة أن تتفق على أحكام هذه الاتفاقية، وذلك حتى اجتمعت فى القسطنطينية فى أكتوبر 1888، حيث استطاعت أن تتفق ووقعت على اتفاقية خاصة بضمان حرية المرور فى القناة ووقع عليها كل من «بريطانيا العظمى، فرنسا، النمسا، المجر، إسبانيا، إيطاليا، هولندا، روسيا، وتركيا التى وقعت الاتفاقية نيابة عن مصر».
وأعلنت الحكومة البريطانية فى مؤتمر القسطنطينية عن تحفظها على الاتفاقية، لأن مبادئها تتعارض مع ما يقتضيه وضعها فى مصر أثناء مدة الاحتلال، وفيما بعد سحبت إنجلترا هذا التحفظ فى التصريح الفرنسى البريطانى الصادر فى 18 أبريل 1904، والمعروف باسم الاتفاق الودى، وأصبحت اتفاقية القسطنطينية هى الميثاق الأساسى لحرية المرور فى قناة السويس، والتى أشير إليها فى أغلب المواثيق الدولية التى أبرمت بين الدول الكبرى عامة، وبين مصر وإنجلترا.
السخرة
ولا غرابة من دفاع المصريين المستميت عن قناة السويس، حيث كلف مصر دماء الآلاف من أبنائها وتم حفرها عن طريق أيادى نحو مليون فلاح مصرى ممن أجبروا على ترك حقولهم وقراهم لكى يشقوا الصحراء فى أجواء من المرض والإهانة، وذلك فى وقت وصل فيه عدد سكان مصر لأقل من 4 ملايين فيما يعرف بالسخرة والتى مات خلالها أكثر من 120 ألف مصرى أثناء عملية الحفر على إثر الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة، ومعظمهم لم يستدل على جثمانه ودفن فى الصحراء أو تحت مياه القناة.
واستغرق حفر القناة 10 سنوات «1859 – 1869» وعهد ديلسبس إلى المهندس الفرنسى فوازان بك بمنصب رئيس مهندسى موقع حفر القناة، والذى كان مسئولاً عن الحياة اليومية فى موقع الحفر بكل تفاصيلها.
وانفرد ديلسبس وحده بوضع لائحة العمال وحاز على توقيع الخديو سعيد عليها، والتى ضمنت لشركة قناة السويس البحرية «الفرنسية فى ذلك الوقت» الموارد البشرية الهائلة من خلال تعبئة المصريين لحفر القناة، وجاءت المادة الأولى من اللائحة لتنص على أن تقدم الحكومة المصرية العمال للشركة طبقاً للطلبات التى يتقدم بها كبير مهندسى الشركة وطبقاً لاحتياجات العمل.
وحددت المادة الثانية أجور العمال التى تراوحت ما بين قرش ونصف القرش وثلاثة قروش فى اليوم، وإذا كان العامل دون الثانية عشرة من عمره يتقاضى قرشاً واحداً فى اليوم، والتزمت الشركة بتقديم الخبز المقدد إلى كل عامل بصرف النظر عن عمره، ونصت اللائحة على فرض عقوبات على العمال الهاربين من الحفر، فالعامل المهمل يخصم من أجره بما يتناسب مع مقدار إهماله، أما العامل الذى يهرب فيفقد أجر الخمسة عشر يوماً المحفوظة بخزينة الشركة، ونصت اللائحة أيضاً على عمل مستشفى ميدانى بمنطقة الحفر ومراكز للإسعاف مزودة بالأدوية.
معاناة العمال المصريين
وبدأت فصول معاناة العمال من خلال نقض الشركة وعدها بحفر قناة ماء عزب لمد العمال بمياه الشرب مما أدى للتضحية بآلاف العمال الذين أنهكتهم شدة العطش والانهيارات الرملية، ثم توالى سقوط الآلاف بسبب انتشار الأوبئة، كما خالفت الشركة وعدها بتوفير وسائل متطورة فى الحفر وأكره العمال المصريون على العمل فى ظروف قاسية معتمدين فقط على سواعدهم وعلى الفأس والقفة.
وفى شهر ديسمبر 1861 ذهب سعيد باشا بنفسه إلى منطقة الحفر، وأمر بحشد 20 ألف شاب لزيادة معدلات الحفر، فشهدت بذلك سنوات الحفر الأولى للقناة أكبر عملية حشد للعمال بلغت فى عام 1862 ما بين 20 و22 ألف عامل يساقون لساحات الحفر فى الشهر الواحد، قادمين من الوجهين القبلى والبحرى، وكثر تمرد العمال وهروبهم وأظهر عمال الوجه القبلى تحدياً سافراً للشركة مما اضطرها للاستعانة بالشرطة لإخماد تمرد العمال ومطاردتهم وتعذيبهم.
وكانت مدينة الزقازيق هى منطقة فرز العمال التى كان يستبعد بها أصحاب الأجسام النحيلة ويختار منهم الشبان الأقوياء، الذين يرسلون إلى منطقة القناة سيراً على الأقدام فى أربعة أيام وهم مقيدون بالحبال يحمل كل منهم قلة ماء وكيس خبز جاف، فيصلون إلى ساحات الحفر منهكى القوى، فيتبع وصولهم إصدار الأوامر بتسريح العمال القدامى الذين أمضوا شهراً كاملاً وهى المدة المقررة لبقائهم.
وتمادت الشركة فى تعنتها ولم تدفع أجور العمال، واستمر نقص المؤن والملابس والأحذية، كما أنشأت معتقلا يُرسل إليه من يسىء السلوك، وأنشأت إدارة طبية ومركزاً لإسعاف المرضى لرعاية العمال، ولكن صدرت الأوامر بأن تركز هذه الإدارة جهودها فقط فى رعاية العمال والموظفين الأجانب، ومما عرض العمال بشكل مجحف للموت من شدة فتك الأمراض بهم.
تحديات الأوبئة والأمراض
وطبقاً للتقارير الطبية المحفوظة فى مكتبة بلدية الإسكندرية كان أكثر الأمراض انتشاراً بين العمال هي: النزلات الشعبية والأمراض الصدرية والرمدية وحالات الإسهال الشديد والدوسنتاريا وأمراض الكبد والجدرى والسل، ثم جاءت الكوليرا فى صيف عام 1865 وعصفت بالعمال لدرجة أن الشركة لم تجد رجالاً يرفعون جثث الموتى الذين كان يتم دفنهم فى الصحراء، وتلاها ظهور مأساة تعرض العمال خلال الحفر لمادة طينية سائلة كانت تحتوى على فوسفور حارق مما أدى إلى إصابة الآلاف بالأمراض الغامضة التى أدت إلى وفاتهم على الفور، والغريب أن الحكومة الفرنسية منحت فى 19 يناير 1867 وسام الشرف من طبقة فارس للدكتور أوبير روش كبير أطباء الشركة الفرنسية تقديراً لجهوده التى قيل إنه بذلها فى حماية العمال المصريين من الموت.
حق امتياز القناة ومحاولات تجديده
فى عام 1910 تقدمت شركة القنال بطلب للحكومة المصرية لمدة امتياز شركة قناة السويس الذى كان سينتهى فى 17 نوفمبر 1968 لمدة 40 سنة أخرى تنتهى سنة 2008، وأيدت الحكومة البريطانية وسلطة الاحتلال مد الامتياز «خصوصاً وقد بدأت الحركة الملاحية بالقناة تتضاعف حتى بلغت عام 1889 ضعف ما كانت عليه عام 1881 وتضاعفت مرة أخرى عام 1911، وكانت البضائع البريطانية تمثل %78،6 من مجموع البضائع المارة بالقناة».
وتضمن مقترح مد الامتياز عدة مواد منها مد فترة الامتياز الممنوح لشركة قناة السويس 40 سنة تبدأ من أول يناير 1969 إلى 31 ديسمبر 2008، وتقسيم صافى الأرباح مناصفة بين الشركة والحكومة المصرية، إذا كان صافى الأرباح أقل من 100 مليون فرنك، تحصل شركة قناة السويس على خمسين مليون فرنك ولا تنال الحكومة المصرية إلا ما قد تبقى، أما إذا كانت أرباح القناة أقل من خمسين مليون فرنك، تحصل الشركة على كامل الأرباح ولا تحصل الحكومة المصرية على أى شىء.
ولكن الحركة الوطنية المصرية بقيادة محمد فريد قادت هجوما كاسحا على طلب المد وقلبت الرأى العام ضده، وقام إبراهيم الوردانى باغتيال رئيس الوزراء بطرس غالى باشا سنة 1910 بسبب سعيه نحو مد امتياز القناة.
وقام الاقتصادى المصرى طلعت حرب بتأليف كتاب عن قناة السويس ليوضح الحقائق للعامة والخاصة عن تاريخها وكيف ضاعت حصص مصر من الأسهم والأرباح وخسائرها حتى عام 1909 وخلص إلى القول بأن الأسهم التى باعتها مصر بـ560 فرنكا للسهم أصبح سعرها بعد ثلاثين سنة فقط 5010 فرنك للسهم، وحصتها من أرباح القناة التى باعتها بـ22 مليون فرنك أصبحت فيمتها 300 مليون فرنك.
وإزاء الضغط الشعبى كلفت الجمعية العمومية «مجلس النواب» طلعت حرب باشا وسمير صبرى باشا بكتابة تقرير عن الموضوع، وبالفعل قدموا تقريرهم للجمعية الذى وضحوا فيه خسائر مصر المالية المتوقعة فى حالة تمديد الامتياز الحالى بالشروط السالف ذكرها، وبناء على هذا التقرير رفضت الجمعية العمومية عرض تمديد امتياز شركة قناة السويس وبقى الامتياز قائما بشروطه.
التأميم
وترتبط «قناة السويس» ارتباطا وثيقا بقلوب المصريين جميعا على خلفية مشاق كثيرة تحملها الملايين منهم، فضلا عن تحديات عظيمة تعرضت لها البلاد نتيجة موقعها الفريد والاستراتيجى بما يزيد من مطامع الغزاة وراغبى السيطرة على المحركات الاستراتيجية من ذوى القوى والنفوذ العالمى ولطالما ارتبطت بها احداث مؤثرة فى تاريخ مصر والعالم.
وتمكن المصريون من فرض سيطرتهم على ذلك المورد الاقتصادى المهم بعد صراعات سياسية وحروب عظمى، وكان يوم تأميم القناة، يوم فرض السيطرة المصرية على اراضيها رغم ماعقبه من حروب استمرات اعواما.
حيث شهد يوم 26 يوليو 1956 إعلان جمال عبد الناصر، فى ميدان المنشية بالإسكندرية، قرار تأميم شركة قناة السويس، بعد أن سحبت الولايات المتحدة عرض تمويل السد العالى بطريقة مهينة لمصر، ثم تبعتها بريطانيا والبنك الدولى، قدمت بريطانيا على إثر القرار احتجاجاً رفضه جمال عبد الناصر على أساس أن التأميم عمل من أعمال السيادة المصرية، فقامت هيئة المنتفعين بقناة السويس بسحب المرشدين الأجانب بها لإثبات أن مصر غير قادرة على إدارتها بمفردها، إلا أن مصر أثبتت عكس ذلك.
تجميد الأموال المصرية أول رد على التأميم
وكان أول رد على قرار تأميم شركة قناة السويس، قيام كلاً من فرنسا وإنجلترا بتجميد الأموال المصرية فى بلادهما، فى وقت كان للحكومة المصرية حساب دائن بإنجلترا من ديون الحرب العالمية الثانية بقدر فى تاريخ التأميم بنحو 135 مليون جنيه استرلينى، فيما قامت الولايات المتحدة بتجميد أموال شركة القناة لديها، وكذلك تجميد أموال الحكومة المصرية حتى تتضح الأمور فيما يتعلق بمستقبل شركة قناة السويس، وكانت أموال الحكومة المصرية هناك تقدر بنحو 43 مليون دولار، أى ما يعادل 15 مليون جنيه مصرى وقت التأميم، وبلغ مجموع الأموال المصرية التى تقرر تجميدها فى إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة ما يزيد على القيمة المالية لشركة قناة السويس، كما قررت الولايات المتحدة وقف تقديم أى مساعدة مالية أو فنية لمصر، وضغطت كل من فرنسا وإنجلترا على سويسرا لتتعاون معهما عن طريق تجميد الأموال المصرية لديها، ولكنها لم تستجب لذلك. وأوكل مدير شركة قناة السويس إلى جميع اتحادات أصحاب السفن بأن يدفعوا رسوم المرور فى القناة إلى شركة قناة السويس وليس إلى الحكومة المصرية، وبلغت نسبة مجموع الرسوم التى دفعت إلى الحكومة المصرية منذ التأميم وحتى إغلاق القناة %35 تقريباً والباقى دفع لشركة قناة السويس، وقدر ذلك بأكثر من خمسة ملايين جنيه مصرى، وهو المبلغ الذى تقرر خصمه من مجموع التعويض الذى دفعته الحكومة المصرية للشركة أثناء مفاوضات التعويض.
العالم يصطف ضد مصر
وحاولت الدول الكبرى الوصول لرد الدبلوماسى على قرار تأميم قناة السويس فى محاولة تعبئة الرأى العام الدولى ضد مصر، وإقناعه بأن تأميمها قد خالف الشريعة الدولية وحطمت مبدأ حرية المرور فيها، وهددت السلام والأمن فى منطقة الشرق الأوسط، ولتلافى كل هذه المخاطر اجتمع وزراء خارجية فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة، وأصدروا فى 2 أغسطس 1956 بياناً يتضمن أن قرار التأميم الصادر من جانب الحكومة المصرية يهدد حرية الملاحة فى القناة، ويهدد الأمن فيها، وفى ذلك مخالفة لأحكام اتفاقية القسطنطينية، لذلك يرون ضرورة إقامة مؤتمر تدعى إليه الدول المنتفعة بالقناة، وهى الدول التى وقعت على معاهدة القسطنطينية، أو التى حلت محلها فى الحقوق والالتزامات وهذه الدول هى «مصر، فرنسا، إيطاليا، هولندا، أسبانيا، تركيا، بريطانيا، الاتحاد السوفيتى» ودول أخرى باعتبارها من مستخدمى القناة، وهى «النمسا، سيلان، الدانمارك، أثيوبيا، ألمانيا الغربية، اليونان، الهند، إندونيسيا، إيران، اليابان، نيوزلندا، النرويج، باكستان، البرتغال، السويد، الولايات المتحدة» فيما رفضت الحكومة اليونانية فى 11 أغسطس أن تشترك فى المؤتمر.
وفى 12 أغسطس أعلنت الحكومة المصرية رفضها الاشتراك فى هذا المؤتمر، ووافقت الهند عليه بشرط ألا يمس اشتراكها الحقوق والسيادة المصرية، ولا يتخذ المؤتمر أى قرار نهائى إلا بموافقة مصر، ووافقت الحكومة السوفيتية مع المطالبة بتوجيه الدعوة إلى مجموعة أخرى من الدول منها الدول العربية والدول الاشتراكية.
إنجلتر تعلن إنشاء هيئة المنتفعين
واجتمع المؤتمر فيما بين 16 و23 أغسطس 1956، ونال خلاله المشروع الأمريكى المقدم للتصويت أغلبية الأصوات، والذى تضمن اقتراحاً بإقامة منظمة دولية تقوم على نمط الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة لتشرف على إدارة القناة، وعارض هذا المشروع كل من «الهند والاتحاد السوفيتى وإندونيسيا وسيلان»، وتم عرضه على مصر ورفضه عبد الناصر، وإزاء هذا الرفض، أعلن رئيس وزراء إنجلترا فى مجلس العموم، إنشاء هيئة جديدة باسم هيئة المنتفعين سيكون لها طابعا مؤقتا وستكون مسئولة عن تنسيق المرور فى القناة، وتحصيل رسوم المرور، وانعقد فى لندن مؤتمر فيما بين 19 و21 سبتمبر، لوضع القانون الأساسى لتلك الهيئة، وأصدر مجلس الأمن قراره فى 13 أكتوبر 1956 الذى تألف من شطرين، أولهما: يتضمن مبادئ ستة تكون أساساً للمفاوضات التى تجرى مستقبلاً، أما الشطر الثانى فيتضمن الاعتراف بهيئة المنتفعين التى ستكلف بالإشراف على القناة، إلا أنه لم يفز حين الاقتراع عليه إلا بتسعة أصوات واعتراض صوتان كان منهما الاتحاد السوفيتى المتمتع بحق الفيتو. وأمام فشل السياسة الاستعمارية فى تحقيق مآربها عن طريق الضغط الدبلوماسى، دبرت لاستعمال القوة العسكرية.
العدوان الثلاثى يضرب مصر
قامت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بتدبير مؤامرة ثلاثية على مصر أطلق عليها المصريون العدوان الثلاثى وأطلق عليها الغرب حرب السويس، على إثرها بدأ هجوم إسرائيلى مفاجئ يوم 29 أكتوبر 1956، تلاه تقديم كل من بريطانيا وفرنسا إنذارا لمصر يطالب بوقف القتال بين الطرفين، والقوات الإسرائيلية ما زالت داخل الأراضى المصرية ويطلب من مصر وإسرائيل الانسحاب عشرة كيلو مترات عن قناة السويس وقبول احتلال بورسعيد والإسماعيلية والسويس بواسطة بريطانيا وفرنسا، من أجل حماية الملاحة فى القناة، واختتم الإنذار بأنه إذا لم يصل الرد فى خلال 12 ساعة، فإن الدولتين ستعملان على تنفيذ ذلك.
وأعلنت مصر فوراً أنها لا يمكن أن توافق على احتلال إقليم القناة، وأبلغت مجلس الأمن الذى عجز عن إصدار قرار بسبب استخدام بريطانيا وفرنسا حق الفيتو. وفى اليوم التالى للإنذار البريطانى الفرنسى فى 31 أكتوبر، هاجمت الدولتان مصر وبدأت غاراتهما الجوية على القاهرة، وعلى منطقتى القناة والإسكندرية. وأصبحت مصر تحارب فى جبهتين، جبهة إسرائيل على الحدود، وجبهة الاستعمار البريطانى الفرنسى فى الداخل، الذى يهدد باحتلال القناة، فأصدر جمال عبد الناصر الأوامر بسحب جميع القوات المصرية من صحراء سيناء إلى غرب قناة السويس، وتُركت وحدات انتحارية لتواجه اليهود فى سيناء. وبدأت عملية غزو مصر من جانب القوات البريطانية والفرنسية من بورسعيد، التى تم ضربها بالطائرات والقوات البحرية، ولكنها لم تستسلم. وحركت مقاومة بورسعيد الضارية للقوات البريطانية والفرنسية العالم ضدهما.
الدول العربية تمنع البترول
واتخذت الدول العربية موقفاً مندداً بالعدوان وقامت بنسف أنابيب البترول، ومنعوا وصوله إلى بريطانيا وفرنسا، واتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا فى 2 نوفمبر بإيقاف القتال، وافقت مصر عليه، ورفضته كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وفى اليوم التالى وجه الاتحاد السوفيتى إنذارا إلى بريطانيا وفرنسا، وأعلن عن تصميمه لمحو العدوان بالقوة، إذا لم تتراجع الدولتان عن موقفهما، كما استهجن رد الفعل الأمريكى العدوان على مصر لرغبة الولايات المتحدة فى إظهار اهتمامها بالدول الصغيرة، وأرسل الزعيم الصينى ماو تسى تونغ فى 11 أكتوبر رسالة للرئيس جمال عبد الناصر أبدى فيها مساندة الحكومة الصينية والشعب الصينى بشدة للشعب المصرى فى كفاحه العادل، فأدى هذا الضغط الدولى مجتمعا إلى وقف التغلغل الإنجليزى الفرنسى، وقبولهما وقف إطلاق النار ابتداء من 7 نوفمبر، وتلا ذلك انسحاب القوات الفرنسية والإنجليزية من بورسعيد فى 22 ديسمبر 1956، وبدأت بعد ذلك عملية تطهير القناة التى انتهت فى 11 أبريل 1957، وتكلفت 8.5 مليون دولار، وكان من النتائج القانونية لتلك المغامرة العسكرية، قطع العلاقات الدبلوماسية من جانب مصر مع كل من فرنسا وإنجلترا فى 31 أكتوبر 1956، ووضع الممتلكات الإنجليزية والفرنسية تحت الحراسة، وإلغاء اتفاقية 19 أكتوبر 1954 بين مصر وإنجلترا فى 1 يناير 1957 بأثر رجعى يمتد إلى تاريخ وقوع العدوان.
إنشاء هيئة مستقلة لإدارة “قناة السويس” استبدالا للشركة الفرنسية
وتدير قناة السويس حاليا «هيئة قناة السويس» وهى هيئة عامة ذات شخصية اعتبارية مستقلة أنشئت فى 26 يوليو 1956، وترفع تقاريرها لرئيس الوزراء المصرى،تمتلك الهيئة جميع الصلاحيات التى تمكنها من تشغيل وإدارة قناة السويس دون أن تحد من سلطاتها القوانين والأنظمة الحكومية.
تقوم الهيئة بإدارة وتشغيل واستخدام وصيانة وتطوير قناة السويس، ويوكل لها وحدها وحصرياً مهام الحفاظ على سريان قواعد الملاحة فى القناة، وتطبيق القواعد واللوائح الأخرى التى تحافظ على سريان العمل بالقناة بانتظام وكما يجب، ويجوز للهيئة عند الحاجة إنشاء أو تشجيع أو المشاركة فى المشاريع المرتبطة بالقناة، ولها فى سبيل الوفاء بالتزاماتها وواجباتها الحصول على كل السلطات ذات الصلة، وبالخصوص سلطات التملك والاستحواذ على الأراضى والعقارات أو تأجيرها من ممتلكيها أو تأجير ممتلكاتها من الأراضى والعقارات للغير، وذلك فى سبيل خدمة الهدف المنول للقناة، أو خدمة العاملين بها، أو إنشاء المشاريع والمرافق المتعلقة بالقناة التى تهدف إلى تسيير الأعمال بها بسلاسة مثل محطات المياه والكهرباء.
وللهيئة مجلس إدارة يصدر بتعيين رئيسه وأعضائه وبإعفائهم من مناصبهم وبتحديد رواتبهم ومكافآتهم قرار من رئيس الجمهورية، وتفرض الهيئة رسوما على الملاحة والمرور عبر القناة كما تَحصل على رسوم نظير الإرشاد والقطر والرسو وما إلى ذلك وفقاً لما تقضى به القوانين واللوائح.
ولا يجوز للهيئة اتخاذ أى إجراء من شأنه أن يتعارض مع أحكام اتفاقية القسطنطينية عام 1888 فيما يتعلق بحرية الملاحة بالقناة.
رؤساء «الهيئة» بعد التأميم
وترأس هيئة قناة السويس عقب إنشائها محمد حلمى بهجت خلال الفترة من يوليو 1956 وحتى يوليو 1957، تلاه محمود يونس فى الفترة من يوليو 1957 وحتى أكتوبر 1965، ثم مشهور أحمد مشهور فى الفترة من أكتوبر 1965 الى ديسمبر 1983، تلاه محمد عزت عادل فى الفترة من يناير 1984 حتى ديسمبر 1995، ثم أحمد على فاضل من يناير 1996 إلى أغسطس 2012، ومن ثم الفريق مهاب محمد مميش من أغسطس 2012 وحتى الآن.
فيما كانت تدير قناة السويس قبل قرار التأميم «شركة قناة السويس البحرية» وهى شركة أنشأها الفرنسى فرديناند ديلسبس عقب منحه فرمانا من قبل الخديو سعيد بامتياز شق قناة السويس وإدارتها.
وترأس شركة قناة السويس فرديناند ديلسبس خلال الفترة من عام 1855 إلى عام 1894، ثم جول جيشار خلال الفترة من ديسمبر 1894 حتى يوليو 1896، ثم أوغست لويس من أغسطس 1896 إلى 1913 ولحقه تشارلز جونار خلال الفترة من مايو 1913 إلى 1927، تلاه لويس دى رواج من أبريل 1927 إلى مارس 1948، وخيرا فرانسوا شارل رو خلال الفترة من أبريل 1948 وحتى التأميم يوليو 1956.