بعد أن استعرض الأستاذ العقاد حديث الإفك بحذافيره، عَقَّبَ بأن هذه الفرية هى على التحقيق فرية كاذبة لا قيمة لها، وفى وسع القارئ أن يعرف تهافت وكذب هذه الفرية من نظرة واحدة.
لقد أثير هذا الحديث الكاذب من شخص موتور وفى ظروف حفلت بسخائم الخصومة الدينية والسياسية، ودافعه الخبث والكذب والنفاق من شخص موتور امتلأ قلبه بالغل والحقد والضغن والموجدة.
ولو كانت الأعراض تؤخذ بهذه الطريقة لما كان لأحد عرضٌ يُصان!
ولو كانت الفاحشة ترتكب هكذا علنًا وسط جيش عرمرم يقوده النبى المرسل، وزوجته ولا شك تحت نظره فما صحبها بالغزوة إلاَّ لتكون معه، وعلى المرء أن يلغى عقله فى أن تجترئ سيدة من أشرف البيوتات، وابنة الصدّيق، وزوجة النبى المرسل على ارتكاب الفاحشة بهذا الأسلوب وفى هذا الظرف!
لم يكن فى الركب امرأة غير السيدة عائشة، ولم يكن فى الهودج سواها، ولنحولها وخفة وزنها لم يحس حاملو الهودج بأنها ليست فيه، ولو كان معها امرأة أخرى لنادوا عليها ليتأكدوا من وجود زوجة نبيهم التى يوقرونها توقيرهم لزوجها، ويتهيبون أدبًا من النداء عليها وهى زوج النبى وابنة الصدّيق.
فهل يُصَدّق فى عقل عاقل أن السيدة عائشة وهى زوج النبى عليه السلام لا تؤمن به ولا تعمل بدينه، ناهيك بأن تتحين فرصة عجيبة وسط جيش خضم لترتكب فاحشة بلا مقدمات وبلا معرفة سابقة أو صلة سالفة تسلس إلى هذه السقطة الشنيعة، التى لا تصدر إلاَّ من فاقدى الإيمان بالدين وبالرسالة، بل ولا تقدم عليها بهذا الشكل مجنونة ذهب عقلها تمامًا!!!
إن الأدلة السابقة واللاحقة تقطع يقينًا بصدق إيمان السيدة عائشة وسلامة عقلها، وأيضًا بصدق إيمان صفوان بن المعطل، وتجرى الأدلة على هذا الإيمان فى كل سياق.
وصفوان بن المعطل مسلم غيّور على دينه، وكانت غيرته فى حادثة الماء التى تصاول فيها المهاجرون واتباع ابن سلول هى التى عرضته لهجاء حسان بن ثابت، وبغضته يقينًا لابن سلول، فضلاً عن بغض هذا الأخير للإسلام وبغض رسوله الذى حال مقدمه للمدينة دون تتويجه هو ملكًا عليها!
ولست أحب هنا أن أحل نفسى محل الأستاذ العقاد فى تعقيبه على هذا الإفك، وأستأذن القارئ فى أن أنقل إليه ما أبداه الأستاذ العقاد بنصه قال:
«والسيدة عائشة آمنت بكل كلمة قالها النبى وحفظتها حفظ من يتبرك بها ولا يغفل عنها. ومن إيمانها بصدق هذه الكلمات أنها اشتبكت فى خصومات دامية تثير الحفائظ وتهون عليها أن تحارب خصومها باختلاق الأحاديث التى تزرى بهم وتبطل دعواهم لو كانت ترتاب فى صدق الأحاديث كلها. ولكنها لم تبح لنفسها قط شيئًا من ذلك ولم تذكر حديثًا قط على غير وجهه الذى تؤيده الروايات الأخرى. وقد كانت فى طريقها إلى وقعة الجمل بعد وفاة النبى بزهاء ثلاثين سنة، فنبحتها كلاب على مقربة من ماء فى بعض الطريق، فسألت : أى ماء هذا؟ قال الدليل : هو ماء الحوأب. فأجفلت إجفالة مروعة وصاحت بحيث يسمعها أدلاؤها : إنا لله وإنا إليه راجعون، وضربت عضد بعيرها فأناخت وأبت أن تتحول من مكانها. فلما سئلت فى ذلك قالت : إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه : ليت شعرى أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟ ردونى. ردونى والله أنا صاحبة ماء الحوأب. وما زال الركب مقيمًا فى ذلك المكان يومًا وليلة وهى مصرة على الرجعة وهم يزعمون أن الدليل قد أخطأ وأن المكان غير المكان الذى تخشاه، ولم يزل عبد الله بن الزبير يقنعها ويهدئ من روعها وهو ابن اختها وأحب الناس إليها وبه تكنَّى فى أشهر الروايات، وهى تأبى المسير إلاَّ أن تعود إلى مكة. حتى أرسلوا إليها من يصيح فى الركب : النجاء. النجاء , قد أدرككم علىّ بن أبى طالب. فأذنت لهم فى المسير بها وقد أخافتها الصيحة وخامرها الشك فى كلام الدليل.
«هذا وليس معها فى الركب مِن سامعى ذلك الحديث غيرها، فكيف تغدر بالنبى زوجة تصدقه هذا التصديق ولا تأمن أن ينكشف سرها بوحى من الله؟!
«ومن هى تلك الزوجة بعد هذا؟ هى بنت الصديق الذى لم يوصم بيته بوصمة فى الجاهلية كما قال حتى يوصم بهذه الوصمة الكبرى فى الإسلام ومع نبى الإسلام.
«إن أقوى الأدلة لا يمكن أن يثير أى شك فى مسلك أم المؤمنين، ناهيك بفرية واهية مكذوبة، يبقى على من يقبلها أن يسأل نفسه بعد هذا : كيف نشأت علاقة صفوان المزعومة؟ أفى تلك الليلة بعينها؟ فكيف اجترأ الرجل على مفاتحة أم المؤمنين وهم يتهّيبون المناداة عليها فى هودجها؟ بل كيف تخطر له هذه المفاتحة وهو لا يشك فى إيمانها بزوجها وليس له علم قبل ذلك بخبيئة صدرها؟
وإذا اجترأ هذا الاجتراء هَوَسًا منه كيف يصدق العقل أن امرأة النبى وبنت الصديق تكون هكذا لقطة لأول لاقط يصادفها؟! إن التى تكون كذلك لا يخفى سرها حتى يكشفه حديث الإفك ويقتصر الحديث فيه على صفوان.
«أما إن كانت العلاقة المزعومة قبل ذلك فكيف خفيت بين الضرائر والحساد وقالة السوء من المنافقين؟! وما أغناهما إذن عن المجازفة فى الطريق وعن الكارثة التى تنكشف للجيش كله فى نحر الظهيرة؟
«كل أولئك سخف لا يقبله إلاَّ من يفترى بوشاية أو بغير وشاية وسواء فيه منافقو المدينة ومن يصنع صنيعهم من المؤرخين فى العصر الحاضر، لأنهم لا يؤمنون بنبى الإسلام، بل هؤلاء أنذل وأغفل. لأنهم يؤمنون بمريم والمسيح وكان عليهم أن يعصمهم عاصم من هذا الإيمان.
***
«إن تفنيد حديث الإفك له موضع فى هذا الكتاب لأنه حادث فى تاريخ السيدة عائشة له أثر فى الإسلام والشريعة الإسلامية، وله أثر فى ضميرها لم يفارقها طوال حياتها، وربما كان له أثر فى موقفها من تاريخ الإسلام ترتبط به ذيوله على نحو من الأنحاء، ولولا ذلك كله لما استحق من المؤرخ كبير التفات ».
رجائى عطية
Email: [email protected]
www.ragai2009.com