انقلاب الأمريكيين على أوكرانيا
تُعد سياسة الإدارة الأمريكية الحالية تجاه غزو روسيا لأوكرانيا نموذجًا صالحًا لبيان المشكلات فى كيفية تعامل هذه الإدارة مع الوضع العالمى والأزمات والصراعات الجارية.
بدايةً، يمكن تفهُّم، وربما تأييد، التقييم السلبى للوضع الإستراتيجي، كما وجده الرئيس الجديد عند عودته إلى البيت الأبيض، ولا يعنى هذا أن تقييمه يأخذ فى الحسبان كل جوانب الصورة، وأنه الوحيد الممكن.
دعونا نوضح، شهدت الحرب فى السنة الماضية نجاح الجيش الروسى فى التقدم باستمرار، ولكنه تقدم بطيء ويتكلف الكثير – الخسائر فى الأرواح والمُعدات مهولة. هذه الحرب أنهكت روسيا واقتصادها واستنزفت قواتها، ولكن الجيش تعلَّم من أخطائه، وتعلَّم كيف يتعلم، وطوّر أدائه واكتسب مهارات وخبرات، ومن ناحيتها عانت أوكرانيا تدمير عدد من مُدنها وبنيتها التحتية. ومن ناحية يمكن الإعجاب بمقاومتها الباسلة، صمدت ثلاث سنوات فى حربٍ توقَّع الجميع أنها ستنتهى فى أسبوع. ومن ناحية أخرى يمكن إدانة هروب الملايين من أبنائها إلى الخارج ورفض القيادة السياسية تخفيض سن التجنيد. السمة الرئيسة للوضع هى صعوبة أو استحالة تحقيق أى طرف اختراقًا يتسبب فى انهيار الجيش العدو. أى أن الحرب ستستمر إلى أن ينهار جيش من الجيشين أو جبهة من الجبهتين الداخليتين، لا يعلم أحد متى يحدث هذا وكيف، لكن الأرجح سقوط أوكرانيا رغم بسالة جنودها النادرة ومهارتهم وعدالة قضيتهم؛ لأن الخلل فى موازين القوى واضح.
من ناحية الولايات المتحدة، يمكن الدفاع عن خيار دعم أوكرانيا باعتبارات متعددة؛ منها الأخلاقية، ومنها أن هذه الحرب استنزفت الجيش الروسى دون أن يخسر الغرب جنديًّا واحدًا. وبالنسبة للولايات المتحدة هناك مكاسب أخرى، الخوف من المارد الروسى دفع أغلب الدول الأوروبية إلى رفع الإنفاق الدفاعي، وإلى شراء أسلحة أمريكية، والعقوبات الاقتصادية أجبرت ألمانيا وغيرها على التخلى عن الغاز الروسى كمصدر رخيص للطاقة، وإلى شراء غاز أمريكي.
لكن الصورة ليست وردية تمامًا، بل هى مُقلقة، على الولايات المتحدة الاستعداد لمواجهة الصين، وهو أمر يتطلب التركيز على مسرح المحيطين الهندى والهادي، وتعلم النخبة أن النصر فى الحربين العالميتين يعود إلى عنصرين، النظام الديمقراطى أكثر قدرة على تصحيح أخطائه من النظام السلطوي، وللولايات المتحدة بنية وقدرات صناعية هائلة، والمشكلة أن عنصرى النجاح لم يعودا موجودين، عدد المصانع التى تم ترحيلها إلى شرق آسيا هائل، والصين أقوى صناعيًّا من الولايات المتحدة. إن أضفتم إلى هذا طول أمد الحرب الإسرائيلية على غزة، لوصلتم إلى خلاصة؛ الأدوات الصناعية الأمريكية لا تكفى للتعامل الفعال مع كل المسارح.
يعنى ما سبق أن السعى لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية خيار معقول، لكن تأملوا ما حدث.
أولًا – مرتبط بموضوعنا – المواجهة مع الصين تقتضى دعم التحالفات فى كل من أوروبا وآسيا، ولا يعنى تفكيكها ومعاداة الحلفاء. ثانيًا السعى إلى إنهاء الحرب أمر، والتحالف مع روسيا ضد الحلفاء السابقين أمر آخر. ولبيان جنون هذا الرهان، دعونا نتخيل أننا مكان الرئيس بوتين، يعلم الرئيس الروسى أن نسبة التأييد لروسيا فى الرأى العام الأمريكى منخفضة للغاية – %2 وأن الدولة العميقة الأمريكية تكره روسيا، وأن الرئيس ترامب لن يعيش للأبد، وأن الولايات المتحدة حليف متقلب انقضّ على كل حلفائه، هل أخاطر بعلاقاتى مع الصين وهى دولة لها سياسة ثابتة من أجل عيون رجل واحد؟ ثالثًا السعى إلى إنهاء الحرب لا يعنى تعيين هاوٍ جاهل ليشرف على المفاوضات، ولا يعنى تقديم عشرات التنازلات المجانية قبل بدء المفاوضات، ولا يقتضى الجمع بين صياغة مشروع سلام يعطى روسيا كل ما تريده تقريبًا، وبين الضغط على أوكرانيا لتسلِّم جزءًا من ثرواتها للولايات المتحدة، ولا يعنى إهانة الضحية وقلب الحقائق… أوكرانيا ليست الطرف المعتدي، والقانون الدولى معها، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، تصر الولايات المتحدة على تخفيف لغة البيانات الغربية، وطبعًا تشكل وقاحة الرئيس الأمريكى مشكلة.
* أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية