مثلما يتعرض العالم من حين لآخر، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية العالمية لمخاطر الانزلاق في حرب تجارية ناتجة عن تدخل الدولة لحماية صناعاتها الوطنية التي يتهددها خطر دخول واردات رخيصة الثمن، فإنها تواجه كذلك خطر الدخول في حرب عملات ناتجة عن إقبال الدول علي التدخل في الأسواق بغرض تقليص سعر صرف عملتها امام عملات الشركاء التجاريين بغرض حماية صادراتها.
وتزداد يوماً بعد يوم قائمة الدول الراغبة في تثبيت سعر صرف عملتها وهو ما يزيد من مخاطر وقوع المحظور، ولعل أقرب مثال علي هذا هو إقدام سويسرا مؤخرا علي ربط عملتها باليورو كوسيلة لحماية صادراتها من تداعيات الصعود المتواصل لقيمة الفرنك السويسري، بينما قررت دول أخري السير في الطريق المعاكس، حيث تتزامن الخطوة الأخيرة مع دراسة دول أخري لإمكانية فك ارتباط عملتها بالدولار كوسيلة للتغلب علي التضخم، لكنها أكدت مواصلتها الاحتفاظ بسعر صرف ثابت لعملتها عبر الربط بسلة من العملات الرئيسية.
وينطبق هذا الموقف علي دول الخليج وهونج كونج، فبينما يدور نقاش مهم في هونج كونج حول وقف ارتباط دام 27 عاما للدولار الهونج كونجي بالدولار الأمريكي، أعلنت دولة الإمارات علي لسان وزير اقتصادها أن دول الخليج تدرس تحويل ارتباطها بالدولار لسلة من العملات، بسبب ضعف الاقتصاد الأمريكي في الوقت الراهن.
ويعد تقليص قيمة العملات المحلية وسيلة ناجحة لإنعاش الصادرات وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، والمثال الحي علي هذا هو الصين التي استفادت كثيرا من ربط عملتها بالدولار الأمريكي لكن الحكومة الصينية قررت في يونيو 2010 الماضي إنهاء ارتباط استمر 23 شهرا بالدولار تحت وطأة الضغوط الدولية وبسبب تزايد مخاوفها بشأن زيادة معدلات التضخم.
وقد استفاد الاقتصاد في هونج كونج كثيرا جراء تطبيق الربط بين العملتين في عام 1983، كما صمدت هذه الآلية امام أزمات وتحولات تاريخية مهمة واجهت البلاد بداية من نقل السلطة من بريطانيا إلي الصين مرورا بالأزمة المالية الآسيوية والهجمات المتكررة التي تعرضت لها من المضاربين.
لكن ربط العملة قد أجبر هونج كونج علي استيراد السياسات النقدية شديدة التيسير المطبقة في الولايات المتحدة، حيث أدي الربط إلي زيادة معدلات التضخم وارتفاع اسعار العقارات، وهو ما زاد من مخاوف سكان المدينة.
وتحدث ستيورت جلفير المدير التنفيذي لبنك HSBC الشهر الماضي عن جدوي ربط العملة بالدولار، مقترحا ربطها بسلة من عملات الشركاء التجاريين لهونج كونجي، بدلا من تعويم العملة كليا أو ربطها بعملة واحدة أخري.
لكن هذا الرأي لاقي اعتراضات قوية من نورمان تشان رئيس هيئة النقد في هونج كونج، واستند منطقه إلي حقيقة أن جميع الخيارات المتاحة مثل مواصلة ربط العملة بالدولار أو بعملة أخري أو السماح بالتعويم الكامل لها ستكون مزاياها مصحوبة بعيوب لا يمكن انكارها، لكنه أكد أن مواصلة ربط الدولار الهونج كونيج بالدولار الأمريكي الذي يلعب دوراً جوهرياً في قلب النظام النقدي العالمي سيظل هو أفضل الخيارات المتاحة. ولعل من أكبر مساوئ الربط بالدولار هو تقليص اسعار الفائدة المحلية للمستويات نفسها المسجلة في الولايات المتحدة، حيث تعهد بنك الاحتياط الفيدرالي بالإبقاء علي اسعار فائدة متدنية وقريبة من الصفر حتي منتصف عام 2013 بغرض انتشال الاقتصاد من هوة الركود الذي يقترب من الوقوع فيها. لكن الوضع يبدو مغايرا لهذا في هونج كونج التي شهدت رواجا اقتصاديا مدعوما بالنمو الذي حققته الصين الذي حلق قريبا من نسبة %9.
ومن شأن إقرار اسعار فائدة متدنية في الاقتصاد الهونج كونجي القوي زيادة معدلات التضخم، فقد قفزت اسعار العقارات بنسبة %70 منذ بداية عام 2009، كما صعد مؤشر سعر المستهلك بنسبة %7.9 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وهي اسرع وتيرة للتضخم منذ عام 1995.
ويري جون جرينوود الخبير الاقتصادي لدي شركة انفيسكو لإدارة الاستثمارات أن اللجوء لسلة عملات تشمل اليورو أو الجنيه الاسترليني أو الفرنك السويسري، يقتضي الإبقاء علي اسعار الفائدة متدنية مما يزيد من صعوبة تقييد شهوة الإقتراض من البنوك في هونج كونج.
وأعلن البنك المركزي السويسري الإلتزام بتطبيق هدف تقليص قيمة الفرنك متعهدا بشراء كميات غير محدودة من العملات الأجنبية وعدم السماح بصعود قيمة الفرانك لأعلي من 0.83 يورو، وذلك في اعقاب تحول الفرنك السويسري ليصبح ملاذا آمنا للمستثمرين بعد اندلاع أزمة منطقة اليورو.
واعتبر جيرمي كوك الخبير الاقتصادي لدي شركة وورلد فرست للسمسرة في مجال العملات أن قرار البنك المركزي السويسري قد اقتضي تطبيق تدخل واسع النطاق في اسعار العملة مما يفسح الطريق لتدشين حرب عملات جديدة، خصوصا أن البنك قد تعهد باتخاذ إجراءات تستهدف تطبيق إجراءات مستديمة وجوهرية وتقليص اسعار الفرنك السويسري لمستويات أدني أمام اليورو إذا تطلب الأمر ذلك.
وتستهدف الخطوة الأخيرة مواجهة الصعود الكبير في قيمة الفرنك السويسري، وهو ما شكل أكبر تهديد للاقتصاد السويسري بسبب صعود تكلفة الصادرات كما لحقت أضرار جسيمة بقطاع السياحة في ظل فقد البلاد الكثير من جاذبيتها كمقصد سياحي. كما أن العملة السويسرية المرتفعة قد دفعت العديد من المواطنين لعبور الحدود إلي المانيا لشراء بضائع ذات اسعار متدنية.
وتثار شكوك بشأن قدرة الحكومات علي إضعاف عملتها المحلية علي المدي الطويل، فإذا كان التدخل الياباني أو السويسري قد نجح في تقليص قيمة الفرنك والين لكن اشتداد الأزمات المالية سيزيد من صعوبة هذه المهمة.
وكان البنك المركزي السويسري قد قرر الشهر الماضي تقليص اسعار الفائدة لتقترب من الصفر وزيادة المعروض من الفرنك المتاح في الأسواق، لكن هذه الخطوة قد أخفقت في إضعاف العملة.
وواجهت اليابان مشكلة مماثلة، حيث صعدت قيمة الين لمستويات مرتفعة منذ بدء الأزمة المالية، وهو ما تسبب في إلحاق أضرار جسيمة بصادرات البلاد، وقام البنك المركزي الياباني لذلك بالتدخل في الاسواق بغرض إضعاف العملة.
وحذر لويس كوبر محلل السوق لدي شركة BGC بارتنرز من أن البنوك المركزية قد لا تمتلك القدرة الكافية لإضعاف العملة علي المدي الطويل.
وأشار كوبر إلي أن المحاولات التي بذلتها اليابان للتدخل في الأسواق سعيا لإضعاف العملة تدلل علي أن هذه المحاولات قد تفلح علي المدي القصير لكن تغيير تدفقات العملة طويلة الأجل في الأسواق العالمية محكوم عليه بالفشل.
وبدأت دول الخليج تدرس امكانية فك ارتباط عملتها بالدولار وربطها بسلة من العملات بغرض مساعدة هذه الدول علي حماية عملاتها واستثماراتها في ظل المأزق الحالي الذي يعاني منه الاقتصاد الأمريكي، دون أن يعني هذا تخليها عن سياسة تثبيت سعر صرف عملتها، فكثيرا ما أكد واضعو السياسات في دول منطقة الخليج التي تتصدر دولها قائمة الدول المصدرة للبترول في العالم، أن هذه السياسة تسهم في حماية صادراتها من البترول طالما أمكن الإبقاء علي معدلات التضخم تحت السيطرة.
لكن معدلات التضخم بدأت ترتفع جراء بدء سير اقتصادات خليجية رئيسية في طريق التعافي، حيث سجلت أعلي مستوياتها خلال 18 شهرا في الإمارات والكويت، لكنها لا تزال بعيدة عن المعدلات القياسية التي تم تسجيلها في عام 2008.