أثناء جلوسي إلي ماجد ميراز ــ مدير قطاع التسويق بالسويس للأسمنت ــ دخل عضو بفريق التسويق بالشركة في المنوفية يستنجد به ــ وليخلي مسئوليته في نفس الوقت ــ قائلاً ان أحد كبار التجار والذي كان يشتري منه في المعتاد عدداً من السيارات يومياً، إلا أنه فوجئ صباح هذا اليوم يطالبه بتخفيض السعر ــ المخفض أصلاً ــ لأن لديه عرضاً أفضل من موزع لشركة أخري علي الرغم من بعد هذه الشركة عن المنوفية وملاحظة تكلفة النقل، وهنا نظرت إلي ماجد ميراز فلاحظت الأثر اللحظي لهذا التصرف في إحمرار وجهه، ولكنه حاول مداراة ذلك نظراً لوجودي.
د. حسن راتب |
هذه الحكاية تعكس وضع الأسمنت في مصر حالياً.. صراع محموم علي الفوز بأكبر قدر من المناطق البيعية وإلحاق أكبر قدر من الخسائر بالمنافسين، في حين أن الفائز الحقيقي في هذا الصراع طرف ثالث يحرص علي إشعال المزيد من الحطب ألا وهو تاجر الأسمنت، فالصراع الدائر بين شركات الأسمنت أدي إلي هبوط الأسعار إلي أدني مستوياتها، حيث وصل سعر الطن إلي 115 جنيهاً بدلا من 179 جنيها وهو السعر الذي تراه الشركات المضادة عادلاً، بينما يبيعه التاجر للمستهلك بنفس الأسعار القديمة وتصل أرباحه من عملية المضاربة إلي ما يقارب %100.
إذا التقطنا صورة ميدانية لسوق الأسمنت في مصر ومساهمات الشركات في الانتاج السنوي نجد أن الانتاج السنوي حالياً يبلغ 31.5 مليون طن في حين ان الاستهلاك من هذا الانتاج لا يتعدي 27.3 مليون طن، أما بالنسبة لتواجد الشركات منفردة في السوق فنجد أن الشركة المصرية للاسمنت التابعة لشركة أوراسكوم للإنشاء والصناعة تسهم بنحو %18 من اجمالي انتاج الأسمنت في مصر لذلك تعتلي قائمة الشركات المنتجة للأسمنت، تليها شركة أسيوط التي تمتلك شركة «سيميكس» المكسيكية %96 من أسهمها وذلك بنسبة %15.3 ومن بعدها تأتي شركة السويس للأسمنت وتسهم بـ %13وطره للأسمنت بـ %9.9 والشركتان السابقتان يمكن جمع انتاجهما علي أساس وجود إدارة واحدة للشركتين بعد شراء السويس لشركة طرة للأسمنت أما شركة حلوان للأسمنت فتأتي في المركز الخامس بنسبة %8.9 وهي الشركة التي تسيطر عليها «أسيك» العالمية وهي شركة عربية ــ سويسرية، بينما تسهم القومية للأسمنت وهي الشركة الوحيدة الي تسيطر عليها الحكومة بنسبة %8.8، أما بالنسبة لأسمنت العامرية التي اشترتها شركة «سيمبور» البرتغالية فتسهم بـ %5.4 من الانتاج المحلي، ونفس النسبة تسهم بها شركة الاسكندرية للأسمنت وتسيطر عليها شركة بلوسيركل البريطانية، بني سويف للأسمنت تسهم بـ %5 من الانتاج وهي خاضعة لإدارة شركة لافارج الفرنسية، بينما تشارك سيناء للأسمنت بـ %4.3 من اجمالي انتاج الأسمنت في مصر وهي الشركة التي يديرها رجل الأعمال المصري حسن راتب في حين تسهم شركتا قنا ومصر بني سويف بنفس النسبة وتبلغ %3 لكل منهما من انتاج الأسمنت في مصر والأولي يرأس مجلس إدارتها المهندس محمد محمود علي حسن رئيس اتحاد مقاولي البناء والتشييد.
في ضوء التوزيع السابق لحجم الشركات المنتجة في سوق الأسمنت المصري نلاحظ أن الشركات المملوكة لشركات عالمية تسيطر علي %40 من حجم الانتاج في مصر، و%51 من الانتاج تقدمه الشركات المحلية الخاصة بينما تظل الشركة القومية للأسمنت الوحيدة التي تتبع وزارة قطاع الأعمال العام وتسهم بـ %8.8 من الانتاج، وعلي الرغم من ارتفاع الأصوات المنددة بالسياسة التي تتبعها الشركات الأجنبية والمتمثلة في حرق الأسعار، إلا أنه من الواضح أن هذه السياسة ليست صنيعة هذه الشركات وحدها، ولكن الغالبية اشتركت فيها مع اختلاف المآرب.
كما أن الأوضاع الحالية وسياسة حرق الأسعار أدت لظهور أبعاد جديدة في إطار إدارة الشركات اللازمة ولعل إتجاه شركة سيناء لبيع %28.5 من اجمالي أسهمها لشركة «فيكا» الفرنسية بقيمة 140 مليون جنيه أبلغ دليل علي ذلك، لتوفير السيولة اللازمة لتمكين الشركة من الاستمرار في ظل الظروف التي تمر بها صناعة الأسمنت في مصر ولسداد أقساط القروض الممنوحة لها من بنك القاهرة أيضاً، ونفس الامر أيضا بالنسبة لشركة مصر بني سويف التي تتفاوض شركة «C.R.H » الأيرلندية لشراء %34 من أسهمها وهي الاستراتيجية التي وجدت الشركات المضارة أنها الأمثل لتثبيت أقدامها في السوق، وبما ينبئ بأن المراحل الأكثر سخونة في الصراع لم تبدأ بعد.
والسؤال الآن أين يمكن أن تؤدي هذه السياسات بسوق الأسمنت؟!
البداية كانت مع اللواء عزام عبد المنعم ــ رئيس قطاع التسويق بالقومية للأسمنت ــ الذي قال إن ما يحدث حالياً في سوق الأسمنت هو بالضبط نفس ما حدث في سوق الدواجن من قبل، فعندما راجت فكرة الاستثمار في الدواجن زادت أعداد المستثمرين في هذا القطاع مما أدي لزيادة المعروض ونزول الأسعار، وفي التسعينيات تهيأ للناس أن الأسمنت هو الاستثمار الرابح فزاد المستثمرون في الأسمنت حتي وصلنا لما نحن عليه الآن من زيادة العرض عن الطلب بحوالي 4 ملايين طن، كما أنه علي الرغم من وجود فائض في الانتاج إلا أن الجميع يسعي لاستغلال كامل الطاقة الانتاجية مما أدي لزيادة المخزون الراكد من الأسمنت، علي الرغم من حالة الركود التي يشهدها سوق العقارات هذه الأيام.
ويؤكد اللواء عزام علي أن توزيع شركات الأسمنت جغرافياً أدي لإلتزام ضمني بين هذه الشركات علي توزيع الأسمنت في المناطق المحيطة بموقع الشركة، وهو الالتزام الذي كان يضمن عدم المضاربة في الأسعار واستقرار أوضاع الشركات، إلا أن هذا الالتزام تم خرقه مؤخراً وأصبحت كل شركة تسعي للبيع في جميع أنحاء مصر، وإن كانت الشرارة الأولي بدأت عندما قامت بعض الشركات ومن بينها «سيناء» بالتصدير لجهات معينة في أوروبا والعالم العربي مما دفع بعض الشركات العالمية العاملة في مصر والتي لها مصالح في هذه الأسواق الخارجية لأن تقوم ببيع الأسمنت في قلب سيناء وتتحمل في نفس الوقت تكلفة النقل التي تصل لـ 10 جنيهات للطن عقابا لسيناء علي قيامها بالتصدير.
ويري مدير التسويق بالقومية للأسمنت أنه لا يمكننا أن نلوم المستثمر الأجنبي علي طول الخط، فان كان قد خرق التوزيعة الجغرافية الداخلية فهو لعدم قيام هذه الشركات المحلية بالتنسيق معه عند قيامها بالتصدير في الخارج.. ذلك حتي يكون هناك تنسيق علي الأقل في السوق الخارجي بعد غيابه في السوق الداخلي.
وأضاف مدير التسويق أن الشركة التي تقوم بالتصدير تعمل بذلك علي تحسين ظروف السوق المحلي وهذا ما قمنا به في القومية للأسمنت فقد صدرنا 35 ألف طن ونعتبر الشركة الثانية ــ علي حد قوله ــ تصديرياً بعد المصرية للأسمنت وان كان نسبة ما قمنا بتصديره لإجمالي انتاجنا أكبر منها بالنسبة للمصرية للأسمنت التي تنتج ضعف إنتاجنا.
ويعتقد عزام أن الاقتراح الخاص بإنشاء صومعة مجمعة للتصدير من الضروري أن يدخل حيز التنفيذ بمساهمة أغلب الشركات فهناك حوالي 4 ملايين طن فائض، وبالطبع هناك مواصفات معينة لانتاج كل شركة، إلا أن معظم الشركات المصرية حصلت علي الشهادة الأوروبية التي تجيز دخول الأسمنت السوق الأوروبية، فالاختلاف غير جوهري وتستطيع كل شركة أن تكون لها شحنة تستخدمها، علي أن يكون التصدير بالدور، وان كانت المشكلة التي ستواجهنا هي قلة عدد سيارات «السايلو» التي تحمل الأسمنت السائل.
ويؤكد في نفس الوقت أن هناك تصرفات غير مسئولة من بعض الشركات وتؤدي بالطبع لخسارة القومية للأسمنت وليس فقط وجود عمالة كثيرة بالقومية، فكيف نفاجأ بوجود سيارات تابعة لشركة بني سويف تبيع الطن للعميل في قلب القاهرة بـ 112 جنيها، فإذا احتسبنا تكلفة النقل من بني سويف وتبلغ 10 جنيهات للطن فهذا يعني أن سعر طن 102 جنيه، وبما أن الشركات تعطي حافزاً للتجار بالتالي فان طن الأسمنت القادم من بني سويف يباع بأقل من 100 جنيه بينما السعر العادل للأسمنت ــ من وجهة نظره ــ 179 جنيها، لذلك فإن الحل الوحيد الذي أراه يكمن في الـ Market Shane Jgreement أي تحديد الحصص السوقية لكل شركة، ومازاد من انتاج الشركة عن هذه الحصة إما أن تتوقف عن انتاجه أو تقوم بتصديره.
ويري مدير تسويق القومية للأسمنت أن تجار التجزئة هم أكبر المستفيدين من الصراع الدائر بين شركات الأسمنت، والذين يلعبون دوراً خطيراً في إشعال حرب الأسعار، علماً بأن المستهلك الأخير لها يشتري بالطن ولكن بالشيكارة وبالتالي تصل ربحية التجار إلي ما يصل لـ 100%.
يتفق ماجد ميراز مدير التسويق بالسويس للأسمنت مع اللواء عزام في هذه النقطة بالتحديد وإن اختلف معه في امكانية انشاء صومعة مجمعة لتصدير الأسمنت نظراً لإختلاف ظروف الانتاج في كل شركة.
ويقول ميراز: سوق الأسمنت الآن مفتوح تماما أمام الجميع ولم يوزع جغرافياً وإن كانت المصانع موزعة جغرافياً، والجميع للأسف يقوم بالتوزيع في أي مكان، وعندما سألته عن سبب الأسف مادام السوق مفتوحاً قال: لأن شركة السويس تقوم بالتوزيع في الدلتا علي اعتبار قربها من مصانعنا ولنا اسمنا هناك إلا أننا نفاجأ بأن شركة أسيوط مثلاً عندما تريد التوزيع في الدلتا تقوم بتخفيض السعر لتحصل علي مساحة بيعية، وكان تعليق شركة سيميكس أنهم يستثمرون في مصر وليس في أسيوط، ومادام هذا هو رد شركة أسيوط فلابد من تحديد الحصص السوقية لكل شركة والتزام الشركات التي تريد البيع في المناطق البعيدة عنها بالبيع بنفس سعر الشركة التي تقوم بالتوزيع في هذه المنطقة، إلا أنه حتي الآن لا توجد بوادر لإنفراج الأزمة، ولكن بالالتزام بالحصة السوقية وعندما يصبح المعروض مساوياً للطلب الفعلي سترتفع الأسعار مقابل تنازل بسيط من الشركات بأن تقوم بتخفيض انتاجها بنسبة معينة فإذا كانت الأسعار الآن انخفضت بنسبة %50 فمع تقديم تنازل بـ %20 ستربح الشركات نسبة الـ %30 وبالتالي توفر طاقة ومستلزمات إنتاج وترفع الأسعار وتقلل الخسائر.
ويري ميراز أن الدولة لا تستطيع توفير الحماية لشركات الأسمنت التي قد تتعثر نتيجة هذه الأوضاع، وإن فعلت فمن المؤكد أن أي إجراء ضد الشركات العالمية العاملة في مصر ستستغله هذه الشركات في الإساءة لموقفنا وجاذبية مصر للاستثمارات في الخارج.
وتعليقاً علي الدراسة التي أجرتها وزارة الصناعة مؤخراً والتي حددت خمسة مواقع جديدة لإقامة مصانع أسمنت في 5 محافظات قال ميراز أنه لا يمكن أن يفكر أحد المستثمرين في انشاء مصنع أسمنت الآن، فمن سيفكر في ذلك فمن المؤكد أنه لا يقدر حقيقة الوضع المؤسف الذي تواجهه تجارة الأسمنت.
من ناحيتها قالت مسئولة بإحدي الشركات العالمية العاملة في مصر أن الهبوط الحادث في أسعار الأسمنت يعود إلي زيادة الانتاج عن الماضي وان كان هذا لم يؤد لخسارتنا لأن إنتاج الشركة علي كفاءة عالية وفي نفس الوقت سعر التكلفة الخاص بنا منخفض لذلك نحقق الأرباح المستهدفة وقادرون علي المنافسة نظراً لتمكننا من أسواقنا، أما الشركات الأخري التي تتعرض للخسائر فهي الشركات المثقلة بالديون، فعلي سبيل المثال، فان احدي شركات الأسمنت مدينة بأرقام كبيرة للبنوك، لذلك قامت قبل حلول مواعيد استحقاق الديون بحرق الأسعار، فقد كانت تريد تصريف انتاجها بأي ثمن لجمع سيولة من السوق.
وتري المسئولة أنه ليس هناك ما يسمي بالسعر «العادل» للأسمنت ولكنه تحدده كل شركة بمفردها كما يتراءي لها وتبعاً لاقتصادياتها.
وأوضحت بأن الشركة بعيدة كل البعد عن التصرفات التي يندد بها مسئولو الشركات المحلية وخاصة الاحجام عن التصدير، مؤكدة أن الشركة علي استعداد لمساعدة الشركات الأخري علي إيجاد أسواق خارجية للتصدير لتصريف الفائض في الانتاج لدي هذه الشركات.
من ناحيته قال مهندس أحمد ماهر فطيم ــ مدير غرفة صناعة مواد البناء باتحاد الصناعات ــ إننا إذا تحدثنا عن السياسة التي تنتهجها شركات الأسمنت تجاه حرق الأسعار ومن الظالم ومن المظلوم من جراء هذه الأوضاع لابد أن نحدد أولاً من أطلق الرصاصة الأولي في هذه الحرب، فنجد أن شركة سيناء تمكنت من التصدير إلي الخارج فتوجهت شركة أسيوط التي تديرها «سيميكس» المكسيكية لبيع الأسمنت في قلب سيناء، وهنا نلاحظ أن الأسلوب الذي ردت به شركة سيناء وسَّع من نطاق هذا الصراع حيث توجهت سيارات سيناء للبيع في القاهرة بدلاً من أسيوط، ولاشك أن هذه الأوضاع تسبب خسارة بالغة للشركات خاصة المدينة للبنوك لأنها مطالبة بتسديد الاستحقاقات البنكية بالاضافة إلي الفوائد وفي نفس الوقت تبيع بأسعار أقل ما يقال عنها أنها زهيدة.
وأوضح أحمد فطيم أن الشركات الأجنبية عينها علي إمتلاك السوق المحلي فقط دون الاتجاه لتصدير فائض انتاجها علي الرغم من أنهم يبيعون الأسمنت في مصر بأقل سعر له في العالم إلا أنهم لا يزالون متمسكين بالسوق المحلي، وهو أمر يحمل مغزي غير مفهوم، وفي نفس الوقت فوجئت هذه الشركات باتجاه الشركات المحلية للتصدير، مما دفعها لإنتهاج هذه السياسة.
ويؤكد مدير غرفة صناعة مواد البناء أن تجار الأسمنت يلعبون دوراً خطيراً في هذه الأزمة، فتاجر الأسمنت الذي يملك من 50 – 40 سيارة يستطيع أن يهز مركز أكبر شركة أسمنت وفي النهاية سترضخ لرغبته ومضاربته في السعر بزعم وجود عروض أرخص من شركات منافسة، ويشير فطيم إلي ظاهرة أخري تتمثل في أن الأسمنت علي غير عادته أصبح سلعة مرنة سعرياً وأصبح المستهلك الأخير يعرف التوقيتات التي تهبط فيها أسعار الأسمنت خاصة في موسم الشتاء بعد خروج المصانع من الصيانة «العمرة» التي تتم في أشهر الصيف، وبالتالي أصبح المستهلك الأخير يؤجل مشروعاته لموسم الشتاء ومن المفروض أن تقوم شركات الأسمنت برفع أسعارها في هذا الموسم إلا أن هذا لا يحدث الآن وشركات الأسمنت تحقق خسائر كبيرة.
ويؤكد فطيم علي أهمية إتفاق شركات الأسمنت فيما بينها علي إنشاء آلية ولتكن صندوقاً لمراقبة وتوزيع الحصص السوقية علي أن تكون هناك عقوبات علي الشركات المخالفة للقواعد التي يتم الاتفاق عليها، وان كانوا قد اجتمعوا من قبل واتفقوا بالفعل علي عدة معايير، ولكن للأسف فالشركات المصرية هي التي بدأت بمخالفة ما تم الاتفاق عليه، أما بالنسبة للدور الحكومي فمنذ أن تم بيع الشركات في إطار الخصخصة لا يحق للوزارة التدخل في شئون أية شركة خاصة في ظل الاقتصاد الحر كما أن مصر ليس لديها من القوانين ما يكفل لها منع ما تسعي إليه بعض الشركات من احتكار السوق.