ومن أبرز الخطوات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية لتنشيط السوق الثانوي لقروض الرهن العقاري كما يقول د. منير هنري هو الدور الذي لعبته إدارة الإسكان الفيدرالي Federal Housing Administration (FHA ) التي انشئت في عام 1934 وكذا إدارة خدمة المحاربين القدامي Veterans Administration (VA ) التي انشئت في عام 1944 حيث تم اسناد مسئولية حماية المستثمرين في تلك القروض للإدارتين فبالنسبة للإدارة الأولي تمثلت الحماية في تقديم خدمة تأمينية ضد توقف المقترض عن السداد Default Insurance بينما تمثلت الحماية التي قدمتها الإدارة الثانية في ضمان القروض Loan Guarantees التي تمنحها المؤسسات المالية لأغراض الإسكان.
تقتصر الحماية التي تقدمها المؤسسات الحكومية علي القروض الممنوحة لأولئك الذين يصعب عليهم أن يكونوا في مركز قوة تفاوض علي تلك القروض وهم في الأساس الطبقات ذات الدخل المحدود والشباب في بداية حياته الزوجية والمحاربين القدامي أما القروض ذاتها تقدمها الشركات العقارية والبنوك المملوكة لمودعيها وبالنسبة للمستثمرين في تلك القروض أي مشتروها فهي شركات التأمين التي تشتري القروض التي تقدمها الشركات العقارية.
ويوضح هنري عملية خلق سوق ثانوي جيد لقروض الرهن العقاري بفضل الدور الحكومي في ضمان القروض والتأمين ضد توقف المقترض عن السداد بما يعني في النهاية تشجيعاً للمستثمرين المحتملين في تلك القروض مما ساهم في النجاح الذي حققته الهندسة المالية في تنميط قروض الرهن العقاري من حيث الحد الأدني الذي ينبغي أن يدفعه من يرغب في الحصول علي قروض وامكانياته المالية، ومواصفات المسكن وسبل تقييمه.
وأدت هذه الاجراءات إلي أن أصبحت القروض مشابهة للسندات إذا أصبح لها سوق ثانوي نشط، له رواده ولا يعانون من صعوبة تسييل تلك القروض ولقد أدي هذا بدوره إلي امكانية قيام الجهات المنشئة Originators لتلك القروض ببيعها واستخدام حصيلتها في تقديم قروض جديدة.
ويوضح هنري أنه لمزيد من الدعم للسوق الثانوي للقروض العقارية، انشئت مؤسسة الرهن القومية الفيدرالية Federal National Mortgage Association (FNMA ) وذلك في عام 1938 والتي يطلق عليها الآن فني مي Fannie Mae تحددت مهمتها حينذاك في تقديم قروض مباشرة للراغبين في الحصول علي قروض إسكان، من بين أولئك الذين يقطنون في مناطق يصعب أن تصل إليها خدمات الاقراض العقاري ويشترط في ذلك أن يتوافر في تلك القروض الشروط التي تخضعها لحماية إدارة الإسكان الفيدرالي FHA وإدارة خدمة المحاربين القدامي VA وعلي أن يعاد بيع تلك القروض للقطاع الخاص.
ونظرا لأن الاقتراض من تلك المؤسسة الحكومية وكذا شراء القروض منها لم ينطو علي مزايا تجعلها في مركز تنافسي أفضل مما يقدمه القطاع الخاص فقد أعيد تنظيمها في عام 1954 وفي ظل اعادة التنظيم أصبح الهدف الرئيسي لها هو تنشيط السوق الثانوي للقروض المؤمن عليها والمضمونة من إدارة الإسكان الفيدرالي وإدارة خدمة المحاربين القدامي أما السبيل لهذا التنشيط فهو قيام المؤسسة بشراء القروض من الجهات الأصلية التي قدمتها Originators .
وساهم الكونجرس الأمريكي في انجاح مهمة تلك المؤسسة ونجاح برنامج توفير المسكن لمحدودي الدخل والفئات الأخري التي تحتاج للمساعدة والتي سبق الإشارة إليها فقد استبعد سعر الفائدة علي تلك القروض من نطاق التحرير ولم يتركها لظروف العرض والطلب واشترط أن يكون سعر فائدة ثابتاً غير عائم حدث هذا استجابة للحاجة لإبقاء أسعار الفائدة علي تلك القروض عند مستوي منخفض أما مصدر تمويل مؤسسة الرهن القومية الفيدرالية FNMA لشراء تلك القروض فيأتي من متحصلات سندات تصدرها.
ويبدو دور المؤسسة فعالا وواضحا في الفترات التي ترتفع فيها أسعار الفائدة في السوق فخلال تلك الفترات لا تري الجهات المنشئة لتلك القروض أنه من صالحها ـ في غياب دور مؤسسة الرهن ـ تقديم قروض بسعر الفائدة المنخفض الذي يفرضه بنك الاحتياطي الفيدرالي وهنا تدخل مؤسسة الرهن ـ بكثافة لشراء تلك القروض من الجهات المنشئة لها ليبدو دور هذه الجهات وكأنها وسيط مؤقت بين المقترضين والمؤسسة أو بعبارة أخري منفذ لتقديم قروض للراغبين في شراء مساكن ثم لا يلبث أن يعيد بيعها إلي فني مي Fannie Mae .
وقيام مؤسسة الرهن بهذا الدور يعرضها للمخاطر فعندما ترتفع أسعار الفائدة تجد المؤسسة نفسها مضطرة لشراء قروض الرهن العقاري من الجهة المنشئة للقروض وهي قروض تحمل سعر فائدة ثابتا ويقل عن سعر الفائدة السائد في السوق هذا في الوقت الذي يتم فيه تمويل المؤسسة لشراء تلك القروض بإصدار سندات تحمل سعر فائدة مرتفعا يتمشي مع ظروف السوق إنها مخاطر فجوة سعر الفائدة Interest Rate Gap أي مخاطر اختلاف سعر الفائدة علي الاستثمار في الأصول «قروض الرهن العقاري المشتراه» عن سعر الفائدة علي مصادر تمويل «السندات» شراء تلك الأصول.
ويوضح هنري أنه عندما تنخفض أسعار الفائدة في السوق لا تميل الجهات المنشئة لتلك القروض لبيعها مما يجعلها تبدو لعبة غير عادلة ولكن في حالة واحدة هي تجاهلنا للهدف من نظام الاقراض العقاري المتمثل أساسا في توفير إسكان لائق بشروط ميسرة لمحدودي الدخل في الوقت الذي لا تهدف فيه المؤسسة من الأصل لتحقيق الربح وإقدام مؤسسة الرهن علي شراء تلك القروض في فترات ارتفاع أسعار الفائدة هو علي أمل أن تنخفض أسعار الفائدة في المستقبل وترتفع أسعار الأصول المستثمر فيها وعندئذ قد تستطيع بيع تلك القروض بسعر مناسب، يمكنها من استهلاك السندات التي سبق أن أصدرتها ومع هذا فالمؤسسة هي التي تتحمل مخاطر أسعار للقروض العقارية والمستثمرين في السندات التي تصدرها المؤسسة بغرض تمويل تلك القروض.
وتوضح التجربة أنه لم يستمر الحال طويلا فلقد نجم عن الارتفاع التدريجي في أسعار الفائدة في السوق الأمريكي في الوقت الذي تحمل فيه قروض الإسكان سعر فائدة متدنياً، اتجاه المؤسسات المالية خاصة شركات التأمين التي تعتبر في مقدمة المؤسسات المشترية لتلك القروض من مؤسسة الرهن إلي أن تهجر سوق الاستثمار في القروض العقارية مفضلة مجالات أخري للاستثمار من بينها الاستثمار في الأسهم وهكذا تعرض سوق الإقراض العقاري لهزة عنيفة فمؤسسة الرهن القومية الفيدرالية FNMA أو فني مي Fannie Mae التي كانت تشتري القروض من شركات الإقراض العقاري لتعيد بيعها للمؤسسات المالية ومنها شركات التأمين لتستخدم الحصيلة في شراء قروض جديدة من شركات الاقراض العقاري أغلق الباب أمامها إذ لم تعد تستطيع بيع القروض المشتراه.
ويشير إلي أنه عام 1954 أدخل تعديل علي قانون انشاء مؤسسة الرهن القومية الفيدرالية FNMA يقضي باحلال القطاع الخاص تدريجيا محل الحكومة في مجال تنمية السوق الثانوي للإقراض العقاري إلي القطاع الخاص.. ولتوفير التمويل اللازم لشراء قروض الرهن العقاري فقد نص التعديل علي حق المؤسسة في إصدار أسهم ممتازة وأسهم عادية ليس لها حق التصويت.. وبالنسبة للأسهم الممتازة فقد بيعت لوزارة الخزانة ولتوفير طلب فعال علي الأسهم العادية تدخلت الهندسة المالية لتقديم الحل في صورة الزام شركات الإقراض العقاري بشراء حصة من تلك الأسهم كشرط أساسي لقيام مؤسسة الرهن FNMA بشراء القروض التي تقدمها تلك الشركات.
وحصلت المؤسسة علي الحق في إصدار سندات متوسطة وطويلة الأجل لتوفير مصادر تمويل اضافية تدخلت الهندسة المالية لتوفير آليات الطلب علي تلك السندات كان ذلك في صورة التزام الحكومة عند الحاجة بشراء ما يعادل 5.5 بليون دولار من تلك السندات وبث هذا الالتزام الطمأنينة في قلوب مشتري تلك السندات ذلك أنه إذا لم تحقق المؤسسة أرباحا كافية لخدمة تلك السندات فلن تتأثر سيولة سوقها وذلك لإدراك المستثمرين أنه يمكن للمؤسسة إصدار المزيد منها وبيعه للحكومة من أجل توفير سيولة لخدمة تلك السندات ولقد أتاح هذا الدعم الحكومي للمؤسسة أن تقوم بإصدار السندات بسعر فائدة منخفض مقارنة بالسعر الذي كان يمكن أن تصدر به في ظل غياب هذا الدعم وكما كان مخططاً فإنه بعام 1968 استطاعت المؤسسة استرداد الأسهم الممتازة التي سبق أن بيعت لوزارة الخزانة وتم سداد قيمتها وبذلك انتقلت ملكية وإدارة مؤسسة الرهن القومية الفيدرالية من الحكومة إلي القطاع الخاص أي شركات الإقراض العقاري، التي هي حملة أسهم رأسمال تلك المؤسسة.
وفي نفس العام أي في عام 1968 انشئت مؤسسة الرهن القومية الحكومية والتي يطلق عليها جيني مي Ginnie Mae وعهد لتلك المؤسسة بمهمة شراء القروض العقارية التي تقدم عن طريق برامج اسكان حكومية لمناطق يصعب علي سكانها الحصول علي قروض عقارية من أسواق الإقراض التقليدية والأهم من ذلك هو التزامها بضمان حصول المستثمرين في قروض الإسكان علي الفوائد وأصل الدين في مواعيدها بشرط أن تكون تلك القروض مضمونة من إدارة الإسكان الفيدرالي وإدارة المتطوعين FHA – VA الموارد المالية اللازمة لاضطلاع المؤسسة بتلك المهام فقد أتت إليها من وزارة الخزانة وأيضا من خلال الاقتراض بإصدار سندات.
ويوضح هنري أن الأدبيات تشير إلي أن الضمان الذي قدمته مؤسسة الرهن القومية الحكومية GNMA أو جيني مي Ginnie Mae للقروض المضمونة من إدارة الإسكان الفيدرالي وإدارة المتطوعين يعد من أهم الخطوات التي اتخذت لتطوير السوق الثانوي للإقراض العقاري ذلك أنها تعني ضمان المؤسسة للفوائد وأصل الدين لأي ورقة مالية يتم توريقها من محفظة تشتمل علي تلك القروض وهذا هو الباب الذي دخلت منه الهندسة المالية وأتاح لها فرصة الابداع والابتكار بشأن الأوراق المالية التي يمكن توريقها.
وترجع أهمية الضمان الذي قدمته مؤسسة الرهن القومية الحكومية إلي أنه علي الرغم من أن إدارة الإسكان الفيدراي FHA تضمن الفوائد وأصل الدين فإنه في حالة توقف بعض المقترضين عن السداد كانت الجهات المنشئة للقروض تجد صعوبة في الحصول علي تلك التدفقات المالية في مواعيدها حقا تحصل عليها في النهاية ولكن هناك وقتا يضيع وتكاليف إدارية إضافية تتكبدها فضلا علي تأثير ذلك علي غلة الاستثمار Investment Yield أما في ظل الضمان الذي قدمته المؤسسة فقد تم التخلص من كل هذه المشاكل بل والأكثر من ذلك أن الضمان قد امتد إلي التزام المؤسسة بسداد رصيد القرض علي الفور وقبل حلول تاريخ الاستحقاق وذلك إذا ما تعرض المقترض لمخاطر التوقف أو قرر أي المقترض سداد رصيد القرض قبل تاريخ الاستحقاق.
ويوضح أنه وفقا لأساسيات الهندسة المالية ليس هناك غذاء مجاني Free Lunch ففي مقابل المزايا التي حققتها الجهات المنشئة للقروض أصبح لزاما عليها أن تدفع الثمن للمؤسسة ممثلا في أتعاب ضمان Guarantee Fees القرض ذلك الضمان الذي ساهم بوضوح في انتظام التدفقات النقدية الداخلة بالشكل الذي يساعد تلك الجهات علي أداء وظيفتها أي إعادة ضخ الموارد المالية التي اتيحت لها في سوق الاقراض العقاري ثانيا: كل الأطراف سعداء فالجهة المنشئة حصلت علي مستحقاتها في مواعيدها بحد أدني من التكلفة والمؤسسة حصلت علي أتعاب لتغطية تكاليف التشغيل أو جزء منها فضلا عن نجاحها في مهمتها وهي تنشيط السوق الثانوي لقروض الإسكان.
ويوضح هنري أن للهندسة المالية دورا هاماً في توفير المرونة الكافية للجهات المقدمة لقروض الاسكان من خلال طبيعة التعاقد بين مؤسسة الرهن القومية الفيدرالية FNMA والجهة المنشئة للقرض ذلك أن التعاقد قد يكون إلزاميا أو اختياريا.. ففي العقد الالزامي تلتزم المؤسسة بشراء قدر معين من قروض الإسكان من الجهة المنشئة بسعر وتوقيت محددين كما تلتزم الجهة المنشئة أو المقدمة لتلك القروض ببيع القروض محل التعاقد للمؤسسة كل ذلك في مقابل رسوم التزام Commitment Fees تدفعها الجهة المنشئة للمؤسسة.
أما النظام الاختياري فلا يخرج عن كونه صورة من عقود الاختيار ففي ظل هذا النظام يكون من حق الجهة المنشئة للقروض الامتناع عن بيع القرض للمؤسسة في مقابل رسوم تدفعها لها مقدما كثمن لهذا الاختيار وهي رسوم غير قابلة للرد.