شو والفن
الفن الذى يقصد إليه الأستاذ العقاد، هو أولاً فى المسرح قبل كلّ شىء، ثم فن الموسيقى، ثم سائر الفنون.
وشو صاحب مدرسة مستقلة فى المسرحيات.
وهو وإن كان يقتدى بالشاعر النرويجى «هنريك أبسن»، لكنه أوسع منه نطاقًا فى جانب، وأضيق منه نطاقًا فى جانب آخر.
تناول شو فى مسرحياته كل ما يتناوله الفكر من مسائل الفلسفة ونظم الحكم ومشكلات المجتمع والسياسة، وفَصَّل القول فى أمور لم يبحثها «أبسن»، وأطلق التمثيل من قيود الفصول القصيرة بما أبدعه من ملاحم مسرحياته. وكانت منزلته الأدبية خير شفيع لتلك الملاحم عند الفرق التمثيلية.
ومزية شو فى مسرحياته، تكاد تنحصر فيما يبدى الأستاذ العقاد، فى حسن الحوار وعرض الأفكار، بينما كانت فقيرة فى المواقف وفى تكوين «الشخصيات»، وعبثًا أن تجد فى رواياته شخصية كالشخصيات التى تراها فى شكسبير أو موليير أو سوفوكليس، أو موقفًا من المواقف المحكمة التى تجدها عند أولئك المسرحيين الشعراء.
ما فى روايات شو قوامة كلمة أو حوار مرتب.
عنه يقول ونستون تشرشل فى مقال بديع يورد الأستاذ العقاد بعضه «إن من تجديداته الأخرى- والكبرى- أنه لا يعتمد فى مسرحياته على التجاوب بين الشخصية والشخصية، أو على التجاوب بين الشخصية والبيئة، ولكنه يعتمد فيها على التجاوب بين الحوار والحوار وبين الخواطر والخواطر، فتصبح خواطره شخوصًا تتصارع فيما بينها، تارة بقوة مسرحية شديدة وتارة بغير ذلك، وتصبح شخوصه الإنسانية ـ مع استثناء قليل ـ عائشة بما تقوله، وليست عائشة بما تعمله، ولكنها مع ذلك تعيش».
ويتقبل الفيلسوف «جود» تلميذ شو هذا الرأى، بل ويضيف إليه أن شخوص شو لا تعدو أن تكون أبواقًا ينفخ فيها آراءه ودعواته. بيد أن هذا النقد يصدق- فيما يرى جو- على جميع المؤلفين وجميع الشخوص، إلاَّ أن ذلك لا يعنى أن شخوصه ليست أفرادًا حيّة بل مجرد تسجيلات صوتية، بل هم شخوص يعيشون بحقهم فى الحياة لا بحق التأليف كما نرى فى شخوص شكسبير وديكنز.
على أن الأستاذ العقاد يرى أن «جود» ينسى أن تمييز الشخوص قد يرجع إلى فارق فى صفة من الصفات غير صفة الحياة الطبيعية، والتى تميز بين الملامح النفسية.
وشو- فيما يرى- يكاد لا يختلف عن أستاذه هنريك أبسن. فهو أيضًا يرسم أفكارًا فى شخوص ويعطيها الحياة بمقدار ما لها من عبارات الحوار.
وإنما الاختلاف بينهما فى سعة النطاق فى جانب، وضيقه فى آخر. فشو أكبر منه تارة وأصغر منه تارة أخرى.
وموضع امتياز شو ـ فيما يرى ـ سعة موضوعاته وتعدد آفاقه.
وموضع امتياز أبسن فى عبارة الأداء لا فى لباب الموضوع.
وقد حاول شو أن ينظم الشعر، فلم يعلن منه غير مقطوعات غزليّة فكاهيّة، وسئل عن محاولته الشعر ثم عدوله عنه فقال إنه تركه لأنه رآه يملى عليه ما تحكم به القافية.
* * *
ومنزلة شو فى التعليقات الموسيقية تلى منزلته فى المسرحيات، ولا يقال عنه إنه صاحب مدرسة فيها.
ويظهر أن سليقة الموسيقى عنده ملكة موروثة من أمه، وأن فائدته من الألحان التى وضعها نوابغ الموسيقيين- ولا سيما فاجنر- أكبر من أى فائدة استفادها شو من مسرحيات كبار الشعراء والكتاب.
واعتقاد شو فى الموسيقى، أنها تنقل إلى المتلقى الشعور الذى يعجز القصّاص عن نقله فيكتفى بوصفه.
الموسيقى تغمرنا بما يجيش فى نفس البطل وما استولى عليه فى كل لحظة، ويقول شو إنه نفذ إلى فيكتور هوجو وشيللر من طريق موسيقى ونيزنى وفردى وبيتهوفن، ونفذ إلى التوراة من طريق هاندل، وإلى جوته من طريق شومان.
على أن الموسيقى لا تكون كذلك ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ إلاَّ إذا كانت صورة للنفس فى حالات انتظامها وتناسق الشعور فيها مع نظام الكون، وأنها بهذه المثابة أكثر من تعبير.
وقد اشتغل شو بالنقد الموسيقى زمنًا، واشتغل معه بنقد الآثار الفنية على الإجمال.
ومأثرته العظمى فى هذا الباب ـ فيما يرى الأستاذ العقاد ـ أنه أنقذ النقد الفنى من «المشرحة الطبية» التى حاول بعض النقاد العلماء أن يردوه إليها ويقصـروه عليهـا، وفى طليعتهم «ماكس نوردو» الطبيب الكاتب المفكر المعروف صاحب كتاب «الانحلال والاضمحلال» الذى أنحى فيه على عشرات من الأدباء والفنانين بسلاح المشرطة ولغة الوصفات والتحليلات.
وكان هم نوردو أن يثبت على الفنان أعراض المرض كما «يشخصها» من كتاباته وترجمة حياته. ثم يحكم على فنه بالشذوذ والانحلال.
ومن الواضح أن هذه الطريقة كثيرة المزالق كثيرة الأخطاء، لأن إثبات الشذوذ على النوابغ لا يزيد على القول بأن شذوذ المزايا يقترن بشذوذ التركيب، وتعليل الإحساس بعلّة مرضية ـ أو فسيولوجية ـ لا ينفيه.
فقد يكون المظهر البدنى علّة لفرط الإحساس، دون أن يعنى هذا أن الإحساس باطل أو أن المحسوس به غير موجود. وقديمًا فهم الناس «أن صاحب العاهة جبار» وفهموا أن المختلين والمعتلين سرٌّ من الأسرار، ولم يكن هذا الأسلوب فى «النقد الطبى» للفن والأدب جديدًا فى مجموعه، بل كان الجديد هو تسليطه على الأدباء والفنانين لإنكار آثارهم من طريق المشرحة.
وقد تصدى شو لهذه المدرسة النقدية فعصف بها وقضى عليها فى البلاد الإنجليزية والأمريكية على الخصوص.
على أن تفصيلات النقد لم تسجل له فضلاً أكبر من فضله فى تصحيح المقاييس وتمحيص الطريقة ورد النقد العلمى أو الطبى إلى مكانه.
والخلاصة أن شو فى المسرح صاحب عمل، وفى الموسيقى صاحب رأى ، وهو فى سائر الفنون صاحب ذوق.
رجائى عطية
[email protected]
www. ragai2009.com