العقاد فى الأدب والشعر والنقد (7 )

شاعرية العقاد (3 ) فالبارودى الذى ينتسب إلى نبلاء الشعراء، عرف شعرهم الذى تحدثوا فيه عن خواص وجداناتهم، والحركة الوطنية المصرية ـ بغض النظر عن الحاجز النفسى الذى قام لدى العقاد من مصطفى كامل ـ قد ألهبت النفوس، واعتمدت على الشعر المنظوم والشعر المنثور الذى كان يبثه مصطفى كامل ومدرسته- فى تحريك القل

العقاد فى الأدب والشعر والنقد (7 )
رجائى عطية

رجائى عطية

9:46 ص, الخميس, 13 ديسمبر 18

شاعرية العقاد (3 )

فالبارودى الذى ينتسب إلى نبلاء الشعراء، عرف شعرهم الذى تحدثوا فيه عن خواص وجداناتهم، والحركة الوطنية المصرية ـ بغض النظر عن الحاجز النفسى الذى قام لدى العقاد من مصطفى كامل ـ قد ألهبت النفوس، واعتمدت على الشعر المنظوم والشعر المنثور الذى كان يبثه مصطفى كامل ومدرسته- فى تحريك القلوب والعواطف، ولا شك أن هذين العاملين كان لهما تأثير فى تشكيل شاعرية العقاد، يضاف إليهما شذرات الثقافة النقدية الأوروبية فيما يرى صلاح عبد الصبور فى مقاله عن شاعرية العقاد. يقول :

«كان النقد الشعرى الأوروبى، وبخاصة الإنجليزى، فى تلك الفترة يعيش فى ظل كلمات الشاعر والناقد العظيم صامويل تيلور تولردج 1772 – 1834، ويشاركه بعض أثره وليام هازلت 1778 – 1830، ثم المعلم الشهير ماتيو أرنولد 1822 – 1888 بشعره ونقده على السوء، فضلاً عن الأثر الذى خلفته أشعار الخمسة الكبار: شللى، وبايرون، ووردزورث، وكيتس، ووليم بليك، أما أكبر الأثر الفكرى فكان للمفكر الإنسانى توماس كارلايل .

«وليس من اليسير أن نجمع هؤلاء جميعًا فى تحديد فكرى وذوقى واحد، إلاَّ إذا استعرنا لهذا الجمع هذا التحديد المرن «الرومانتيكية الإنسانية»، ومن أوضح معالم رومانتيكيتهم الإنسانية أنهمم يشتركون جميعًا فى الإيمان برسالة الشاعر، ففضلاً عن الدور الأخلاقى للشعر عند أرنولد، وكارلايل، نجد أكثرهم رومانتيكية، وهو شللى يقول: «أرجو أن يؤذن لى فى هذا المقام أن اعترف بأنى لا أحمل بين جوانحى شهوة لإصلاح العالم، على أنه من خطأ الرأى أن يظن قارئ أنى أكرّس نتاجى الشعرى لخدمة الإصلاح الاجتماعى وحده.. بل إن غرضى لا يتجاوز تقريب المثل الأخلاقية العليا »..

«أما كيتس فهو يذهب فى قصيدته «أنشودة إلى الشعراء» إلى أن الشعراء هم حملة الحقيقة، حيث تستطيع أرواحهم السماوية أن تصل إلى الفردوس لتتسمع الألحان الفلسفية والحكايات والتواريخ الذهبية من صداح بلابل السماء، فإذا عادت حدثت الفانين بغضبها وحبها وأحزانها وأفراحها، ثم علمتهم الحكمة وألهمتهم سبل القوة ».

ويستشهد صلاح عبد الصبور على أصداء ذلك فى شعر العقاد، بأبيات من قصيدتيه: «حظ الشعراء» و«الشعر ».

فى «حظ الشعراء» ـ يقول العقاد :

أقاموا على متن السحاب فأرضهم

بعيد، وأقطار السماء بعيـد

مجانين تاهوا فى الخيال، فودعوا

رواحة هذا العيش، وهو رغيد

وفى قصيدة «الشعر»- يقول العقاد :

إنى ألوذ بشعرى حين يطرقنى

من الطوارق نزال وضيفان

تفضى له ألسن الدنيا بما جمعت

كأنما هو فى الدنيا سليمان

فالشعر إذن عند العقاد- فيما يقول صلاح عبد الصبور- سلوى نفس الشاعر حين تنوب النوائب، وهو ترجمان الدنيا الحاكى عن محاسنها وبدائعها، وجوهرها وعبرتها. وهذه النظرة تختلف كل الاختلاف عما درج عليه الشعراء فى موروثنا العربى و«هى النظرة التى انطلق منها العقاد حين بدأ حياته الشعرية الخصبة ».

ولا يدحض هذا تنوعات ومستويات شعر الأستاذ العقاد فى دواوينه التى كانت ثمرة ما يزيد على خمسين عامًا من تجربته الشعرية .

ذلك أن رؤية الأستاذ العقاد الخاصة، لها زاويتى نظر متخالفتين. «إحداهما تكشف عن جوهر الشعر وتنير له مسالكه، بينما كانت ثانيتهما تضنيه تحديقًا وتلمسًا، والتلمس عماده التعبير والتحبير ».

ويرى صلاح عبد الصبور أن الأستاذ العقاد كان ذا طبيعة حسية، ولا يعنى بذلك الولوع برغبات الحس، وإنما يقصد أنه كان يستطيع الإحساس بالأشياء، ويتبين ألوانها وظلالها وروائح أشكالها، وتلك موهبة بعض الشعراء مثل «جون كيتس» و«ابن الرومى ».

وكانت هذه الرؤية الحسية إحدى زاويتى رؤية الأستاذ العقاد، والتى تحدث بها فى أناشيد الصبوة والغرام .

ويبدو من آثار الأستاذ العقاد أن المثال الذى اختاره لنفسه هو مثال المفكر الفيلسسوف الشاعر.. وقد يكون مرد ذلك إلى قراءته لأبى العلاء المعرى والمتنبى فى سن مبكرة، وقد يكون مرجع ذلك فيما يرى صلاح عبد الصبور- إلى ما قرأه عن جوته فى كتاب كارلايل وما بثه فيه من إعجاب بجوته فى معظم كتاباته .

ولعله يرجح هذا الرأى، أن الأستاذ العقاد تعددت كتاباته عن المعرى، وأصدر «رجعة أبى العلاء» سنة 1939 بعد نشر معظم فصوله سلفًا سنة 1937 (المجلد الأول للمدينة)، وأصدر أيضًا كتابه «تذكار جيتى» (1932) الذى تناولناه فى المجلد الرابع لمدينة العقاد .

ويرى صلاح عبد الصبور أن الرؤية الفلسفية لم تفتح للأستاذ العقاد آفاقًا كتلك الآفاق التى فتحتها له رؤيته الحسية، إذ ظل تعبيره عن الرؤية الفلسفية مقيدًا بالتجريد والتبسيط وأحيانًا باعتساف النظرة وتعجلها. أما حينما يصدر شعر العقاد من الغنائية العذبة وبساطة الرؤية وحسيتها، نراه عذب الشعر دقيق الإحساس .

ويتمثل صلاح عبد الصبور للرؤية الحسية عند العقاد ـ بقوله :

يا يوم موعدها البعيد ألا ترى

شوقى إليك، وما أشتاق لمغنم

شوقى إليك يكاد يجذب لى غدا

من وكره، ويكاد يطفر من فمى

أسرع بأجنحة السماء جميعها

إن لم يطعك جناح هذى الأنجم

أما الرؤية الفكرية ـ أو الفلسفية، فمنها قوله :

أعطيتهم لؤلؤًا حرًّا فحين رأوا

صغيرة منه صاحوا: أى إفلاس

وجادهم بالحصى غيرى فحين رأوا

خريزة منه قالوا أكرم الناس

وحين يغلو فى التفلسف يصبح الأمر مزيجًا من الغموض والولع بالكلمات المأثورة، وقد يجرى مجرى الحكم الشائعة، أو نظرا إلى حكم الشعراء السابقين، كقوله :

أبعد الشيب ترغب فى الصلاح

وتزهد فى المدامة والملاح

فما ترى الشيوخ سوى اضطرار

كتقوى اللص بات بلا سلاح

وللأستاذ العقاد لغته المتميزة وهى مباشرة.. تعتمد على التحديد أكثر مما تعتمد على الإيحاء، وهى تنتسب إلى العربية الفصحى، وبعيدة عن علل الترخص .

ولغة الأستاذ العقاد أقرب إلى العلم فيما يرى صلاح عبد الصبور، فهو لا يبغى إثارة الإيحاءات وإثارة الظلال، بقدر ما يعنى بكشفه كشفًا مبينًا .

يقول فى قصيدة عنوانها «على بحر الحياة »:

أمن نظرة الآباد والمثل الأعلى

إلى اليوم بعد اليوم والنظرة العجلى

لقد كانت الأجيال عندى قريبة

فقد عادت الساعات توسعنى ثقلاً

نظرت إلى عليا الحياة أرودها

فألفيتها صفرا، ولم أحمد السفقى

فآليت أقضيها كمن راح طافيا

على اليم لم يضرب يدًا فيه أو رجلا

فإن شئت قل هذا غريق وإن تشا

فقل سابح لم يدر أقبل أو وَلَّى

فهنا نجد منهجًا من تتبع المعنى وتفريعه حتى لا يدع فيه بقية من بعده كما يقال، وهو منهج معروف عند ابن الرومى شاعر العقاد الأثير .

وإذا كان الأستاذ العقاد «يستعمل اللغة الاستعمال الباهر الضوء الحافل بالتحديدات، فإنه لا يجد حاجة إلى فنون التعبير الإيحائية كالتشبيه أو الاستعارة أو المجاز، إلاّ فى القليل النادر. وقد عوض العقاد خلو شعره من الإيحاء، بقدرته على الإدراك الحسى للأشكال والصور والألوان، وبخطرات الذكاء الناقد ».

والواقع أن تناول المرحوم الأستاذ صلاح عبد الصبور لشاعرية العقاد، عريضٌ بقدر عراضة الشاعرية وعراضة الكاتب، مما قد لا يتسع المجال هنا للاسترسال فى بيانه، وحسبنا أن صلاح عبد الصبور ختم مقاله قائلاً: «وأخيرًا ؛ فهذه بضع خطرات فى تذوق شعر العقاد، أرجو أن تكون تحية مسعفة فى ذكرى هذا الرائد الجليل ».

[email protected]

www. ragai2009.com

رجائى عطية

رجائى عطية

9:46 ص, الخميس, 13 ديسمبر 18