ليس أمامنا جميعًا في الليلة الظلماء التي يفتقد فيها البدر، غير »حضن الوطن«، مثلما كان يلجأ أي منا عندما »تدلهم الأمور« ويختلط حابل حياتنا بالنابل، ويصبح كل شيء رماديا، فلا هو أبيض ولا هو أسود، وتهبط ستائر الليل فور بزوغ الفجر، وتكشر الأيام والظروف عن أنيابها إلي »حضن الأم«، بصرف النظر عن كون اللاجئ إلي الحضن أبا، إذا كان محظوظًا ببقاء الأم علي قيد الحياة، ليعود طفلاً أو صبيا يلتمس في هذا الصدر الحنون كل الأمان الذي يزرع الطمأنينة ويطرد الخوف سواء كان ذلك الخوف طفوليا لا وجود له، أو »كابوسًا« أثقل علي الكبير كثيرًا بأحداث حياة ثقلت أحمالها إلي درجة الفرار إلي صدر الأم ،حيث »ملجأ الأمان« الذي تعلًَم مكان وجوده منذ حُضن الرضاع!
وعند افتقاد الحنان يتصور البعض أنهم كبروا علي الارتماء في حضن الأم، معتقدًا أن حضن الزوجة يصلح بديلاً، ولكنه ليس البديل، ذلك أن »علاقة الرحم« الذي حمل وتحمل أيامًا وليالي طويلة من القلق والأرق حول سرير ارتفعت فيه حرارة الابن أو الابنة بضع درجات، أو سوء حظ واجه »الضنا« يوم امتحان، أو علاقة زواج فاشلة انتهت بالانفصال، أو وظيفة لم يتم الحصول عليها، أو هجرة لمستقبل أفضل انتهت بالعودة بخفي حنين كما يقولون، كل ذلك يظل الشغل الشاغل لقلب الأم منذ لحظة الولادة حتي الرحيل، حتي لو تنكر لها بعض من أطعمت وسهرت وسخّرت حياتها لهم يظل قلب الأم مشغولاً وعطوفًا، حتي علي قسوة البعد الذي تسببت فيه »زوجة لئيمة«، ناسية أن كل شيء في الدنيا سلف ودين، وأنه كما تدين تدان، وأن كل ما تسببت فيه لحماتها من تحريض للزوج علي أمه سوف ترده لها عندما تصبح حماة زوجة الابن أو زوج البنت أضعافًا مضاعفة لتشرب من نفس الكأس التي كانت حريصة علي أن تتجرعها حماتها أم الزوج كل صباح إلي أن »تفر« بجلدها من بيت الابن والذي تصورت أنه سوف يكون بيت »رد الجميل« قبل أن تكتشف أنه تحول إلي »معسكر للتعذيب« بدموع تماسيح تلقي زوجة الابن بها لزوجها فور العودة من العمل، شاكية من أم أصبحت الحياة معها في بيت واحد مستحيلة ولا تطاق، ليستجيب الابن العاق بترتيبات »لبيت مسنين«، متصورًا أنه بذلك »يريح ويستريح«، ناسيا أن قطع الرحم عقابه عند الله وحده، وأن بقاء الأم وحيدة خلال أيام عمرها الأخيرة له عقاب ليس مثله أي عقاب، وأن العكس ثوابه ليس مثل أي ثواب!
يبقي بعد ذلك الفرق بين حضن الأم وحضن الوطن، فكلاهما »رحم«، الأول رحم شخصي، والثاني رحم عام، الأول يلد فردًا أو عدة أفراد، والثاني بلد الملايين صانعًا بينهم وشائح تصنعها الأرض، وتضاريس الجغرافيا، ووحدةالتاريخ، والمصير المشترك، وسعة الأرض، أو ضيقها بما رحبت بفعل حاكم ظالم عاش حياة »الكُفر« كاملة بتصور أنه »إله«، وأن الكل له عبيد إلي أن يكتشف الأكذوبة عند الطرد أو عند الموت، حيث يكون موعد العودة قد فات بكثير، ليلقي بالأولي ملايين تكرهه، وبالثانية زبانية جهنم في الانتظار.
وفي أحداث التحرير التي حضرتها كاملة، رغم تقدم السن، كان كل ما تجيش به النفس طوال الساعات هو »الاعتذار« للوطن الذي صبرنا كثيرًا وطويلاً علي إهانته إلي أن التقيت بشاب صبي يحمل لافتة أثلجت قلبي كثيرًا لبساطة الكلمات: معلش يا مصر.. اتأخرنا عليكي كتير.
وفي السياق نفسه تهزني كثيرًا صرخة »العجوز التونسي« الذي وقف من بعيد يشاهد آلاف التوانسة الثائرين يملأون الشوارع ليقول والدموع في عينيه ماسحًا رأسه الأشيب بيده، قائلاً ومعتذرًا للوطن وللثائرين: »لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية«، وما زالت تلك العبارة التي شهدتها مئات المرات تدفع بالدموع إلي عيني اعتذارًا للوطن، الذي أعتقد أنه بحنان قلب الأوطان، سوف يقبل الاعتذار بشرط عدم العودة إلي ما كان!!