أخيرًا تم »تنظيف ميدان التحرير« بعد أن قام الميدان بثواره الحقيقيين بدوره التاريخي في إسقاط »أعتي نظام حكم« في تاريخ البشر، حيث دفع الثوار من دمهم – شهداء ومصابين – بكل الرضا والشجاعة ثمن تنظيف وجه مصر، وإعادة الأمة المخطوفة إلي اصحابها بعد دفع الفدية الواجبة من دمائهم الطاهرة، وهي الدماء التي ما زال رصيدها الذي لم ينفد، والذي لا ينفد يسمح لهؤلاء الثوار بالعودة للميدان حتي بثورة جديدة فور إدراكهم أن »الديابة« الذين يحيطون بثورتهم يتلمظون لهبش اللحم المصري من جديد، وهو اللحم الذي رفعه الثوار إلي درجة القداسة لوطن صنعوا قيامته، وهي القيامة التي لا تسمح ولن تسمح أبدا بالعودة إلي ما كان.
وأعتقد أن الذين »استحلوا« قعدة ميدان التحرير تحت الخيام القذرة والمهترئة التي أعطت القاهرة الكبري مظهراً من »التدني الحضاري« لا يليق ابدا بالعاصمة العريقة التي أزال الثوار عنها تراب مبارك وسابقيه منذ انتصارهم علي العهد البائد الغلبان قبل أن يذيقنا الثوار مر العذاب مع بعض من الانجازات لم تكن تستحق كل هذا الزمان الطويل من سحق الإنسان المصري الذي ادعوا انهم قاموا لانقاذه، بينما الحقيقة هي انهم اتوا ليذوقوا حلاوة المُلك الذي طردوا صاحبه، لنبتلي نحن بعشرات الملوك القادمين من الحارات، بديلا لملك واحد ترك العرش مبحرا إلي المجهول حتي لا يقتل السلاح المصري – الذي يملكه الحرس الملكي – مصرياً من القادمين ممن ادعوا انهم ثوار، وآخرهم مبارك »المسجل خطر شرعية«!
ومنذ ترك الثوار الحقيقيون ميدان التحرير مؤقتاً للعودة إذا لزم الأمر، فقد احتله باعة الكشري والزلابية وتجار المياه الساقعة الملونة، وبائعو الأمشاط والفلايات مع الكثير من الهاربين من العدالة الذين رأوا في الميدان ساترا يرحمهم من يد القانون الذي يبحث عنهم، مع القليل من بسطاء الثوار الذين لم يحسبوا جيدا لوغاريتمات العمل السياسي، بضرورة الحفاظ علي سمعة الثورة والثوار من تعطيل مصالح الناس بما جري عند أبواب المجمع، وشل المرور في أكثر ميادين القاهرة حساسية، والاشتباك اليومي بين الباعة الجائلين وأصحاب المحال بالمنطقة الذين »وقف حالهم« بادعاء أن من يحتلون الميدان لأسابيع طويلة هم من الثوار مع انهم ليسوا كذلك بما حرض كل هؤلاء ومعهم سكان العمارات المحيطة بالميدان علي كراهية الثورة والثوار في ظلم حقيقي للثوار الحقيقيين الذين تركوا الميدان فور إدراكهم أن كل طلباتهم مجابة مع مهلة من الوقت تسمح بالتحقيق.
ومن بين إبداعات الوعي المصري القدرة علي الفرز الحقيقي والتفريق بين ما هو غث، وما هو سمين، وهي قدرة نابعة من »جينات ميراث حضاري طويل موجودة لدي أكثر المصريين بساطة واقلهم ثقافة وعلما، وتلك عظمة الميراث الذي يدركه جيداً أولئك الذين يفهمون بحق طبائع المصريين الذين يتمتعون باحترام كل العالمين ببواطن الأمور من الباحثين – بغير حقد أو كراهية مسبقة – سواء كانوا أجانب.. أو مصريين؟
وخلال ذلك »الفرز المصري التلقائي« يتفادي المصريون القفز علي النتائج حتي لا يظلم أحد، ذلك أن المصريين هم أكثر شعوب الأرض تعرضًا للظلم لسنوات طويلة بعضها من المستعمرين الأجانب – وذلك طبيعي ومفهوم – وبعضها من الغزاة المصريين القادمين من قاع المجتمع المصري وصولا إلي كراسي المُلك التي ظلوا يحلمون بها طويلا إلي أن أتي زمان القفز علي السلطة في غفلة من الوعي المصري الذي كان عليه ألا يطيل الصبر الذي أسيء فهمه من الغزاة المصريين، حيث تصوروا – بسبب القهر الأمني الجهنمي – أن الشعب المصري قد مات وأنهم يحكمون خرابة ليفاجأوا بأن »الخرابة« التي يحكمونها قد خرج منها عفريت 25 يناير!!