وماذا بعد؟ سؤال يطرح نفسه بقوة علي النخبة السياسية بعد احتدام أزمة اعتصام القضاة بناديهم احتجاجاً علي إحالة المستشارين هشام البسطويسي ومحمود مكي للجنة الصلاحية وماتلا ذلك من تفاعلات جماهيرية مؤيدة لموقف الإصلاحيين في نادي القضاة وتدخلات أمنية عنيفة رداً علي هذه التفاعلات.
البعض رأي أن الأزمة مرشحة للتفاقم وأن الاعتصام مرشح للتعمق رأسياً من خلال إجراءات أكثر قسوة قد يتخذها القضاة المعتصمون وأنصارهم من القضاة، والبعض الآخر يري أن الأزمة مرشحة للامتداد أفقياً لتنتقل عدوي الاعتصام إلي هيئة وفئات أخري، وهناك من رأي أن حلاً سلمياً يلوح في الأفق من خلال تسويات أعطت الحكومة بالفعل إشارة خضراء بالشروع في اتخاذها تهدئة للأزمة المتفجرة، وهناك أخيراً من التزم التزاماً حرفياً بالتفسير “الحكومي” للأزمة والذي رأي أن الحل قادم لأننا بصدد مجرد صراع فئوي يمكن أن يحله القضاة بين بعضهم البعض!!
«الحوار لا ينقطع وبابنا مفتوح ولا يوصد أمام أي حل يحفظ أهدافنا»
بهذه العبارة ذات النبرة الدبلوماسية كان رد المستشار أحمد مكي حول مدي إمكانية التوصل لتسوية سلمية لأزمة الاعتصام وفقاً لما أشيع عن وجود اقتراح بصفقة سياسية مقدمة من أطراف قريبة من الحكومة -الدكتور فتحي سرور تحديداً- تقوم علي أساس فض الاعتصام مقابل تبرئة ساحة المستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي بواسطة لجنة الصلاحية.
ويشرح المستشار مكي تفصيلياً رؤيته لما يقصده بقوله «الحل الذي يحفظ أهدافنا»، فوفقاً له فإن الاعتصام بالذات مرتبط بحدث فردي وهو إحالة المستشارين للمحاكمة في تهمة ملفقة، ولكن المستشار مكي يعود ليؤكد أن أي تسوية مقترحة لا يجب أن تتضمن ما يمس مطالب القضاة الأصلية المتعلقة باستقلال القضاء أو أن تتضمن ما يلزمهم بالتخلي عن هذه المطالب وإلا صار القضاة دمية وأداة في أيدي السلطة التنفيذية.
جهود التسوية تدور علي قدم وساق.. إذا هل تنجح هذه الجهود في مسعاها؟ الدكتور جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية وعضو أمانة السياسات بالحزب الوطني أعلن عن يقينه بحتمية حدوث ذلك، فالأزمة، حسب رأيه، ليست سوي أزمة بين القضاة بعضهم البعض حول العلاقة بين المؤسسات المعبرة عن السلطة القضائية!، وبالتالي فالتوصل إلي حل لهذه الأزمة الفئوية الخالصة (علي حد قول عودة) لا يعدو أن يكون مجرد مسألة وقت!
وعلي الطرف الآخر، فإن كلاً من الأستاذين: أمين اسكندر، القيادي بحزب الكرامة وحركة كفاية وجورج اسحق منسق عام نفس الحركة قد أعلنا عدم تفاؤلهما بإمكانية الوصول إلي حل قريباً بسبب تعنت النظام ورغبته في تصوير الأمر علي أنه مجرد صراع فئوي متجاهلاً أن الصراع يدور أساساً حول مبدأ استقلال السلطة القضائية.
أما الأستاذ ناصر أمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء، وهو المركز الذي تبني فكرة إقامة لجنة للتنسيق بين المنظمات الأهلية المدافعة عن استقلال القضاء، فقد ركز علي أنه لا يجب أن يؤدي تواتر أنباء مشاريع التسويات تلك إلي التأثير علي تأهب القوي الوطنية للدفاع عن القضاء وعن حقوق القضاة.
ولكن هل يعني التوصل إلي حل يؤدي إلي فض الاعتصام في مقابل إلغاء قرار إحالة المستشارين إلي المحاكمة التأديبية أن الأمور ستجنح للهدوء وأن حركة القضاة الإصلاحية ستعمد إلي تهدئة الأمور بشكل نهائي؟
الدكتور جهاد عودة، وفقاً لنظرية الصراع الفئوي بين القضاة، يري أن هذا ما ستؤول إليه الأمور بالفعل فبمجرد التوصل إلي هذه التسوية سيكون من الممكن عندئذ أن تقوم المؤسسات القضائية بالتباحث الهادئ فيمابينها لإيجاد صيغة للعلاقات بين بعضها البعض، وعندئذ فإن حركة القضاة والتحركات الشعبية الأخري المناصرة لها ستكون، وفقاً للدكتور عودة، غير ذات موضوع.
وعلي النقيض من ذلك يأتي موقف الأستاذ ناصر أمين، فهو يري أن تحركات المجتمع المدني المناصرة للقضاة ليست معنية بقضية التحقيق مع المستشارين في حد ذاتها، بل إن ما تسعي إليه هذه التحركات هو الدفع نحو إصدار قانون السلطة القضائية بالصيغة التي تقدم بها نادي القضاة وهي الصيغة التي تكفل الاستقلال الحقيقي للسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، فاستقلال القضاء، وفقاً لأمين،هو الضمانة الأولي لأي تطور ديمقراطي في الفترة المقبلة.
أما المستشار أحمد مكي فقد شدد علي أنه، حتي لو تم التوصل لتسوية تتعلق بوقف إحالة المستشارين إلي المحاكمة التأديبية وبالتالي فض الاعتصام، فإن حركة القضاة ستستمر حتي تتحقق المطالب الأصلية لهم وهي استقلال القضاء علي أساس مشروع قانون السلطة القضائية الذي تقدم به نادي القضاة، وكذلك تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية مما يحقق الإشراف الحقيقي والكامل للقضاة علي الانتخابات أو إعفاءهم تماما من هذه المهمة، وأخيراً التحقيق في التجاوزات التي وقعت في الانتخابات السابقة.
ولكن ماذا لو تعثرت محاولات التسوية الجارية حالياً ولم تثمر عن حل لأزمة إحالة المستشارين إلي المحاكمة التأديبية؟ هل سيستمر القضاة في اعتصامهم؟ المستشار مكي أعلنها بوضوح وبلهجة حاسمة وحماسية فوفقاً له فإنه: «لو لم يتم التوصل إلي اتفاق، فسيظل القضاة مستمرين في اعتصامهم ولو إلي يوم الدين، ولو تم ذبح المستشارين بواسطة المحاكمة التأديبية فسيتقدم القضاة صفوفا بعد صفوف للذبح».
ولكن المتأمل للخطاب الصادر عن قيادات القضاة الإصلاحيين سيجد أن هذه النبرة الحماسية ليست هي المسيطرة دائماً علي هذا الخطاب، بل إن هذا الخطاب كثيراص ما يتسم بالطابع الدفاعي المرن فالمستشار أحمد مكي نفسه يري أنه، وإن كان لايري بأساً من توتر العلاقة بين السلطة القضائية والحكومة لأن هذا التوتر هو ضرورة لتحقيق الفصل بين السلطات، إلا أنه مهما توترت العلاقة مع الحكومة فلا ينبغي أن تصل إلي حد القطيعة أو إلي حد تكسير العظام والمؤسسات، فالقضاة، وفقاً لمكي، ليسوا انقلابيين وهدفهم في النهاية هو دفع النظام -وهم يمثلون إحدي سلطاته- إلي ما ينفع الناس. كما أنه لا يجوز لهم أن يتجاوزوا ويعملوا بالسياسة أو يطالبوا بتغيير الأنظمة فهذه هي مسئولية الشعوب.
هذه هي إذا محددات الحركة بالنسبة للقضاة الإصلاحيين، وعلي ضوء هذه المحددات يمكننا أن نتفهم أسباب إحجام القضاة، حتي الآن، عن تعميق حركة اعتصامهم والانتقال بها إلي مراحل أكثر حدة أو قسوة، فالمستشار مكي لا يري مانعاً من أن يتخذ القضاة إجراءات احتجاجية مثل رفع الجلسات أو تسجيل احتجاجاتهم في محاضر الجلسات، فكلها، حسب تعبيره، أمور رمزية، ولكنه يري أن الامتناع عن الأحكام هو أمريتعلق بحقوق الناس، مما يجعل القضاة يترددون كثيراً قبل اتخاذ مثل هذه الإجراءات!
ولكن هل يمكن أن تمتد حركة الاحتجاجات بشكل أفقي بحيث تصل عدواها إلي هيئات وقطاعات أخري مثلما حدث عندما أعلنت هيئات مثل نقابة الصحفيين ونادي مجلس الدولة وحركة 9 مارس والعديد من الأحزاب تنظيم تظاهرات واعتصامات تضامناً مع القضاة؟ وهل يمكن أن تصل الأمور في النهاية، وفقاً لنظرية الدومينو الشهيرة، إلي حالة العصيان المدني الشامل؟
الدكتورجهاد عودة، بالطبع، استبعد حدوث ذلك، فوفقاً له، فإن التنظيم الاجتماعي في الدولة المصرية لا يتيح لها أن يتفاقم وفق السيناريو السابق.
وعلي الجانب الآخر، فإن الاستاذ ناصر أمين قد أكد علي خطورة الوضع الحالي الذي يمثل حركة غير مسبوقة في تاريخ القضاء المصري، ويحذر أمين من أن دفع الحكومة للقضاة إلي هذه الدرجة من الغضب سيكون له أثر عنيف علي الوجدان المصري الذي يحتفظ للقضاة بتقدير خاص.
ويحذر الأستاذ جورج إسحق من خطر امتداد الأزمة أفقياً في ظل الخصومات المتعددة للنظام مع كافة فئات المجتمع مثل الصحفيين والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعة والطلاب والأحزاب السياسية.. الخ، أما الأستاذ أمين اسكندر فقد رأي أن اقتصار إدارة أجهزة الحكم للأزمة علي الجانب الأمني سيؤدي إلي مزيد من العصيان الذي قد ينتقل الي المهنيين والعمال بل إلي ربات البيوت ومختلف فئات المجتمع التي أصبحت تكتوي بصعوبات الحياة.
ولكن هل معني ذلك أن حالة العصيان المدني الشامل قد أصبحت بالفعل علي مرمي البصر؟ الأساتذة أمين وإسحق واسكندر اجمعوا علي أن شروط هذه الحالة الثورية لم تتحقق بعد وإن كانوا يرون أنه من الممكن أن تؤدي المعالجات الأمنية الفجة إلي مثل هذه الحالة في المستقبل القريب.
ولكن ألايمثل تمحور الحركات المطالبة بالإصلاح الديمقراطي بهذا الشكل حول مطالب القضاة والتعامل مع حركتهم علي أساس أنها قد أصبحت قاطرة عملية الإصلاح السياسي والدستوري في مصر، ألا يمثل هذا بالفعل تحميلاً زائداً علي القضاة الذين لابد أن يراعوا، في كل خطوة يخطونها، حساسية مناصبهم كقضاة لايجب أن يعملوا بالسياسة؟
بالطبع فإن الدكتور جهاد عودة قد انفرد بالموافقة علي الطرح السابق، فوفقاً له، فإن الذين يعتمدون علي حركة القضاة سيستيقظون في نهاية المطاف علي الطابع الفئوي الضيق لهذه الحركة.
أما جورج اسحق فيري أن القضية ليست تحميل القضاة دوراً ليس لهم، بل هي الدفاع عنهم كآخر حائط صد يمكن أن يلجأ إليه المواطن المصري. ويوافقه أمين اسكندر الرأي ويري أن المواطن لا يمكن له أن يطمئن إلا في ظل وجود القضاء كسلطة مستقلة بعيداً عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، فالقضاء وحده هو الذي يمكنه أن يحمي المواطن من جور السلطة التنفيذية وتواطؤ السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية.
وينفي ناصر أمين أن يكون القضاة في حركتهم يمارسون دوراً ثورياً أو سياسياً، بل هم، حسب رأيه، يمارسون حقهم الطبيعي في الدفاع عن استقلالهم وفقاً للمعايير الدستورية والدولية المعترف بها. أما عن كون أن الحركة الوطنية تعتبرهم قاطرة الإصلاح فذلك ناتج عن قصور الحياة السياسية في مصر والقهر الذي تعرضت له مختلف الفئات.
ويؤكد المستشار أحمد مكي نفس المعني، فوفقاً له فإن افتقاد مؤسسات المجتمع المدني الفعالة كالنقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية هو الذي جعل البعض ينظر بأمل إلي حركة القضاة، ويؤكد مكي أن حراسة الديمقراطية هي مهمة الشعب بكل مؤسساته الحكومية والأهلية وليست مهمة القضاة وحدهم، ويفسر مكي التأييد الواسع الذي تحظي بها حركة القضاة الإصلاحية بأنه تأييد لقضية استقلال القضاء وليس تأييداً للقضاة في حد ذاتهم، ويدعو مكي مؤسسات المجتمع المدني للاستمرار في مؤازرة حركة القضاة من أجل الإبقاء علي الأمل والعزم والتصميم في إطار حسن الحوار.
ويبدو أن مؤسسات المجتمع المدني لم تكن تنتظر هذه الدعوة فوفقاً لناصر أمين فإن لجنة التنسيق بين المنظمات الأهلية للدفاع عن استقلال القضاء قد أصبحت تضم حالياً أكثر من 25 منظمة أهلية،كما أن جورج اسحق منسق حركة كفاية قد أعلن عن البدء في حملة توزيع ملصقات في جميع أنحاء الجمهورية تحمل شعار «يحيا العدل ومعاً من أجل دولة العدل والحرية» وذلك لدعوة الجماهير للتضامن مع القضاة أثناء انعقاد الجمعيتين العموميتين المرتقبتين لنادي القضاة يومي 11 و25 مايو الجاري.