أبو نواس والخمر
لم تكن طبيعة أبى نواس من الطبائع التى تتسلل إليها العقد النفسية، لأنه كان يبوح برذائله ويتعمد أن يجابه بها الناس علانية، بينما تكمن العقدة النفسية فى طوية الإنسان أو تتسلل إليها من الكبت وطول الكتمان .
يطرح الأستاذ العقاد هذه الملاحظة، ليعقب بأن عقدةً واحدةً تخرج عن هذه القاعدة، هى عقدة الإدمان .
فقد كان إدمان أبى نواس للخمر هوسًا لا مجرد عادة أو لذة ذوقية .
فما هى هذه العقدة التى أصابت نفسًا محصنه من العقد فغلبتها؟
إنها غلبته فيما يرى الأستاذ العقاد لأنها جاءته من طبيعته.. ويعنى بها الطبيعة النرجسية ..
فهذه الطبيعة هى التى تزين للنرجسى عادات العرض والظهور، وهذه العقدة النفسية ليست مما يتقبل العرض والظهور، لأنها مهينة لصاحبها، مذلة له إذ هى خسة النسب فى عصر مطبوع بالأنساب والأحساب .
واحتمال الهوان يهدم النرجسى ولا يبقى له بقية يعتصم بها .
فالعصر الذى عاش فيه أبو نواس كان معترك الأنساب والأحساب .
هب فيه الشعوبيون يفاخرون العرب، ولا يعترفون لهم بفضل غير فضل النبوة .
والعرب أنفسهم كانوا ـ فيما بينهم ـ يتنازعون الفخار بين قحطان وعدنان، وبين عرب الشمال وعرب الجنوب، وكانت كل قبيلة من القحطانية تفاخر القبائل الأخرى بالكثرة والعزة وسوابق التاريخ ومكارم الآباء والأبطال، وهكذا كانت تفعل كل قبيلة من قبائل العدنانيين .
وكان التفاخر قائمًا بين البطون القرشية، وبين البيت الهاشمى والبيت الأموى.. وبين العلويين والعباسيين فى البيت الهاشمى .
ويلاحظ أن «والبة بن الحباب» أستاذ أبى نواس، على ما هبط إليه من حضيض المهانة والزراية بين زملائه من الشعراء والأدباء، إلاّ أنه كان يستطيل عليهم بنسبه العربى .
وقد تمثل همذا الشغف بالأنساب، فى ظهور أول كتاب عن الأنساب فى تلك الفترة، لإمام النسابين ابن الكلبى المتوفى حوالى سنة 205 هـ ـ صاحب كتاب «جمهرة الإنساب ».
وهذا يفسر لهفة أبى نواس على النسب العربى الذى صار يتلمسه تارة فى هذه القبيلة أو تلك، وتارة فى غيرهما من اليمانية أو النزارية .
وترى النسب متخللا بعض شعره فى الخمريات.. فى حوار دار بينه وبين خَمّار يسأله عن نسبه فيجيبه أبو نواس :
وخمار طرقت بلا دليل
سوى ريح العتيق الخسروانى
فقام إلى مذعورا يلبى
وجوف الليل مثل الطيلسان
وقال: أمن تميم؟ قلت: كلا
ولكنى من الحى اليمانى
وأشد من ذلك إبانة عن هذه اللهفة المطوية فى قرارة نفسه، أنه كان يهجو فلا يقع على هجاء لأحد أقبح من الأصل الخسيس كما قال للرقاشى :
والله لو كنت جريرًا لما
كنت بأهجى لك من أصلكا
وكما قال للهيثم بن عدى :
الحمد لله هذا أعجب العجب
الهيثم بن عدى صار فى العرب
وأدق منه فى الإبانة عن طوية الشاعر قوله لحمدان بن زكريا :
ما أنت بالحر فتلحى ولا
بالعبد نستعتبه بالعصا
فرحمة الله على آدم
رحمة من عم ومن خصصا
وأبلغ من هذا إبانةً عن لهفته بالنسب، أنه رأى النسب أبلغ ما يمدح به الخليفة، فقال :
أبوك الذى لم يملك الأرض مثله
وعمك موسى الصفوة المتخير
وجدك مهدىّ الهدى وشقيقه
أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر
ومن مثل منصوريك منصور هاشم
ومنصور قحطان إذا عد مفخر
فمن الذى يرمى بسهميك فى العلا
وعبد مناف والداك وحمير
ويرصد الأستاذ العقاد أن أبا نواس كان يهتبل الفرصة للتعالى على الذين يتعالون عليه، ولا ينهض لتلقى التحية من القادة والرؤساء، ولم ينهض لأحدٍ حياءً غير أبى العتاهية .
وقد تناقضت علاقة الشاعرين: أبو نواس وأبو العتاهية، بوالبة بن الحباب. أبو العتاهية يهجوه لأنه مثله فى عقدة نفسه، وأبو نواس يألفه لأنه مثله فى محاولات الخلاص من شبهة نسبه .
* * *
وللمؤرخ النفسانى أن يكتفى ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ بما تقدم للإبانة عن شدة اهتمام العصر بالنسب وشدة اهتمام أبى نواس به، إلاَّ أن ديوان أبى نواس نفسه ـ أبلغ ترجمة لحياته الباطنية، وهو أصدق ما يكون تعبيرًا عن أبى نواس ـ فى خمرياته التى تفيض بدلائل عقدته النفسية ومركب النقص الذى يساوره من انتسابه إلى كلًّ من أبويه ..
فهو يشرب الخمر لأنها شراب الملوك أو الشراب العريق الذى عاش مع أجداد الأكاسرة والقياصرة وقبل مدار النجوم
تحيرت والنجوم وقف
لم يتمكن بها المدار
وهو يستريح إلى شربها حيث لا فخار بالآباء والأجداد وبين الندامى الذين يهابونه ويتذللون بين يديه
وإذا أنادم عصبة عربية
بدرت إلى ذكر الفخار تميم
وبنو الأعاجم لا أحاذر منهم
شرا فمنطلق شربهم مذموم
وجميعهم لى حين أقعد بينهم
بتذلل وتهيب موسوم
وندع مضطرين ما أسهب فيه الأستاذ العقاد استشهادًا بشعر أبى نواس، لنتوقف عند استخلاصه. أن بيت القصيد من نعى أبى نواس على الرسوم والطلول ـ إنما هو الإزراء بأهلها وبعيشهم وفخارهم الذى عزّ عليه أن يجاريهم فيه، والإشادة بالخمر التى لا يدرك الكفاءة لها كل شارب، ولا يسمو الشاربون لها إلى مثل شمائل أبى نواس .
عاج الشقى على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
يبكى على طلل الماضين من أسد
لادر درك قل لى من بنو أسد؟
ومن تميم ومن قيس ولفهما؟
ليس الأعاريب عند الله من أحد
نعم كل الأعاريب من شمال أو جنوب، وما يفخرون به من حسب حسيب وعيش جديب !
والأطلال لا تهم أبا نواس إلاّ ليستطرد منها إلى عقدته النفسية من نسبه، وإلى التنفيس عنها بالخمر ومنادمتها، فهى «الوجاهة» التى يسمو بها الشاعر على النظراء وينفث فيها الزهو والفخار بديلاً لزهو السادة الأصلاء وفخارهم بالآباء والأبناء .
وهناك خلة أخرى للطبيعة النرجسية تعرضها لإدمان الخمر، هى نوبات الملل والسآمة التى تعاود النرجسى كلما خلا إلى نفسه .
ويلاحظ فى خمريات أبى نواس الولع بكل ما ينبه الشعور ويدفع السآمة .
كما لا ينبغى نسيان أن سوء العيش والضنك الذى عاشه أبو نواس معظم أيامه، ربما كان من أسباب إدمانه الشراب .
ويختم الأستاذ العقاد هذا الفصل، بالمقابلة ثانيةً بين أبى نواس وأوسكار وايلد فى خلة الإدمان، فلم يكن الشاعر الإيرلندى يشكو من عقدة النسب لأنه من سلالة النبلاء، ولا من سوء الغذاء لأنه من الأغنياء، ولا يحتاج إلى دفع السآمة بالخمر لأنه مقتدر على السياحة والتردد على الملاهى والمقاصف والمآدب، ومن ثم ليس من همه أن يتحدى الناس بالشراب، فلم تكن بيئته كتلك البيئة التى كان أبو نواس يتحداها حين يقول :
ألا فاسقنى خمرًا وقل لى هى الخمر
ولا تسقنى سرًا إذا أمكن الجهر
ولهذا إختلف النرجسيان فى أمر الإدمان فكان إختلافهما أدل على الآفة المشتركة
بينهما من الوفاق !