العصر الثقافى
واكبت محنة العصر السياسى، محنة أخرى فى الثقافة، فاصطلحا على «أبى نواس» ــ فيما يرى الأستاذ العقاد ــ فى ضربة واحدة .
«فقد كانت مدن العراق يومئذ ملتقى كل ملة ومجتمع كل نحلة، وكان يغشى البصرة والكوفة مجوس وزنادقة كما كان يغشاها أهل الهند والصين على اختلاف عاداتهم وشعائرهم ومطالبهم فى أوقات جدهم ولهوهم، وكان من حوله مشتجر المذاهب حتى فى النحو والفقه بل الفلسفة وعلوم الكلام، وما يجاورها أحيانا من حذلقة المتعالمين ودعاوى المتظرفين، وتعدى اللغط بالخلاف والجدال فى هذه المسائل طائفة المتأدبين والمتحذلقين إلى سواد الناس ممن يطلع فى الكتب الغريبة أو يطلع فى الكتب المأثورة أو لا يطلع على هذه ولا تلك ولا يرجع فى اعتقاده إلى اطلاع …»
فالإباحية التى نادى بها «بابك الخرمى» فى السنة الأولى للقرن الثالث الهجرى، لم تفاجئ العراق ولا جيرانها فى فارس، وإنما كانت نحله يدين بها ألوف من العامة وسواد الناس فى شمال العراق، ويتفلسف بها المتحذلقون من المتطرفين، يدعون أنهم يبالون بالحلال والحرام، وهم فى الواقع يستبيحون كل محظور !
ولم يقض أبو نواس سنةً واحدة بعد خروجه من البصرة والكوفة ؛ إلاَّ حيث ينغمس ــ كما سلف ــ فى «قلب التقلبات». فلما طلعت بوادر الثورة فى مصر كان هو الضيف و النديم، ولما استفحلت فى بغداد كان هو ضيف «الأمين بن هارون» ونديمه، ولما أقصاه «الأمين» مخافة أن تلصق به وصمته، كان ذو الرئاستين ــ داعية المأمون ــ كان فيما يقول الأستاذ العقاد، يصف الجميع بأنهم «أهل فسق وفجور وخمور وماخور ..»
بل وكان رهط الزندقة قاطبة يقيم حيث أقام أبو نواس .
ومن آفات الإباحية التى شاعت فى العصر الثقافى، ما يصيب أبا نواس وأضرابه فيغريهم بالإباحة .
فالهوس بالإباحة تسربل فى الاحتجاج على نفاق العلية وأرباب المقامات، واعترى هذا الهوس ــ أبا نواس وأضرابه لأنهم يرشحون أنفسهم بحكم ثقافتهم لأرفع المناصب والمجالس والمراسم .
ذلك أن الوضيع الجاهل لا يعانى مثل هذا الدافع، ولا مطمع له فيه .
وعلى الحافة المضطربة بين الضعة والوجاهة ــ كان أبو نواس لا حرمة له بين الحرمات حتى يغار عليها من الإباحية والابتذال !
ولا يكفى للإغراء والولع بهذا الهوس ــ أن يكون الفتى صاحب مذهب فى الزندقة، فقد يعتقد الزنديق استحلال المحرمات فيبيحها لنفسه ويمارسها سرًّا .
ولا يكفى لإغرائه بذلك الولع ــ أنه يتحدى ذوى الوقار لأنهم يحتقرونه ويزدرونه ويترفعون عليه .
وقد كان أبو نواس ــ فيما يرى الأستاذ العقاد ــ كان يتقى من حسن السمعة ما يتقيه الإنسان السوى من مذمتها .
ومن النوادر التى رويت، ما رواه ابن منظور فى أخباره، فقال إن إخوانا له أشاعوا «أنه تاب ونزع عما كان عليه من الفسوق والخمر، فأقبل الناس يهنئونه، فجعل يكذب ذلك ويقول : والله أنا شرٌ مما كنت. فلما كثر ذلك عليه دعا بغلامٍ خمار يهودى وأجلسه فى جانبه ومعه خمر، فكلما جاء من يهنئه ــ يقول لليهودى قبل أن يتكلم: صب لى من خمرك ؛
فيشرب قدحا ثم يقبل اليهودى ويقول للذى جاء يهنئه : قد رأيت صحة التوبة ! ثم قال فى ذلك :
قالوا نزعت ولما يعلموا وطرى
فى كل أغيد ساجى الطرف ميّاس
كيف النزوع وقلــــبى قد تقسمة لحظ العيون ولون الراح فى الكاس
إذا عزمت على رشد تــــكــــــنفنى
رأيان قد شغلا يسرى وإفلاسى
فاليسر فى القصف واللذات أجلسها
والعصر فى وصل من أهوى من الناس
لا خير فى العيش إلاَّ فى المجون مع الأ كـــفـــاء والــــحـــور والنــســريــْــن والآس
ومــــسمع يــــتغـــنى والـــــكؤوس لـــــــها خـــب عـــلــيـــنــا بــأخـــمـــاس وأســـداس
يامورى الزنـــــد قد أعـــــيت قوادحه اقتبس إذا شئت من قلبى بمقياس
« فليس هذا ولع المتمذهب بزندقة ولا ولع المضطر على رغمه، وإنما هو هوس المغلوب على طبعه منحرفا عن الخلق السوى فى كمين هواه .
«والانحراف الوحيد الذى يفسر هذا المرض فى جميع أعراض هو النرجسية أو الغرام بالذات .
«فداء أبى نواس هو النرجسية بدخائلها وتوابعها وخفاياها وألوان شذوذها ».
ولم يكن شغفه ببنى جنسه ؛ يلازمه الإعراض عن المرأة، فإنه لم يكن يعرض عن المرأة، ويدرس علماء الأمراض النفسية هاتين الحالتين من أحوال الشذوذ، فيرون أن لكل منهما أسبابها وعوارضها وعلاقتها بسلامة البنية إجمالاً وبالغدد الصماء على التخصيص، فضلاً عن ملابستها أيضًا بالبيئة البيتية والاجتماعية .
والقرائن التى تفسر احدى الحالتين من الشذوذ لا تفسر الأخرى، بل لعلها تناقضها وتبطلها، ولا يمكن أن تجتمع الحالتان إلاَّ فى شذوذ واحد هو شذوذ النرجسية .
«وجملة القول ــ فيما يرى الأستاذ العقاد ـــ أن هذه الآفة تفسر كل عادة من عادات الحسن بن هانئ وكل خبر من أخباره وكل نزعة من نزعاته: تفسر غرامه الفاعل والمنفعل، وتفسر غرامه بالنساء وكل ما عرف عنه من الشذوذات الجنسية، وتفسر ولعه بالعرض والعلانية واستهتاره بسوء القالة. لأن هذا كله يتولد من تشخيص الذات بالصورة التى يستملحها النرجسى ويتخيلها فى خوالجه الجنسية، ومن هيامه بالعرض والعلانية ولفت الأنظار إلى «الذات «وتقرير وجودها بالتحدى والمخالفة، أو ما يسمونه فى التعبير الشائع المكايدة، ويوشك أن يقصروه على الشواغل الجنسية دون غيرها ».
هذا ويبدو للباحث النفسانى فى دراسته لشخصية أبى نواس، أنها «لقطة» لا تظفر بها المشرحة النفسانية، ففيها كل العوامل والعوارض.. أثر تكوين المولود، وأثر البيت، وأثر البيئة الاجتماعية، وأثر العصر من جانبيه السياسى والثقافى، وطرأت كل هذه العوارض على «أبى نواس» فصارت أدل على أعراض الشخصية وآفاتها !
www. ragai2009.com